إقرأ أيضاً
لن تعود الدنيا لسابقتها لما قبل 7 أكتوبر. اختلفت معاني مشاهد الحياة، أصواتها وكلماتها. أصبحت غزة هي العدسة والسماعة التي من خلالها نشهد الدنيا ونسمعها هذه الأيام. أصبحت كل الأخبار سخيفة باعتياديتها وتوقعها وكل الصور باهتة برفاهيتها و”طبيعيتها” وكل الكلمات عديمة الطعم مفرغة الفحوى وهي تتجاور والكلمات المعجونة بألم ووجع الفقد والفراق والغربة والظلم والقادمة كلها من غزة. كل كلمة ينقلها هواء غزة غزة، كل كلمة مسجلة على شفاه معذبيها، ستتحول إلى كلمة مدججة، محشوة ذخيرة ألم وعذاب وذكرى لا تنسى.
كلنا نتذكر مشهد ذلك الجد وهو يحتضن جسد حفيدته الخال من الحياة بما يبدو وكأنه رضا غريب وبما تبدو وكأنها ابتسامة حانية. كلنا نتذكره وهو يعرِّف من حوله بها مسميها “روح الروح”، مداعباً وجهها ومحاولاً فتح عينيها وملصقاً لحيته بجبهتها فيم هو يضمها لصدره بإصرار وكأنه يحاول بث الحياة فيها. كلنا نتذكر اللحظة اللاحقة وهو يسلمها لكيس بلاستيك تلتف فيه، لتمضي ملتحفة به إلى مثواها الأخير.هذا الجد لم يكن راضياً ولا مبتسماً، إنما بدى حاله عاكساً لهدوء ما قبل العاصفة، وأي عاصفة تراها مقبلة على قلبه وروحه؟
من منا سيستطيع أن يترنم أغنية تحمل شطر “روح الروح” باعتيادية وطبيعية بعد الآن؟ من منا قادر على أن ينادي حبيب بهذه اللفظة، أن يراسل عزيز بعيد بهذا الوصف، أن يناجي إبن أو إبنة بهذا الكم من الحب اللغوي دون أن ينعصر قلبه بذكرى مشهد هذا الجد مودعاً صغيرته ذات عنقودي الشعر اللطيفين، دون أن تلتحم مشاعر الحب والشوق في قلب القائل بمشاعر الألم والعذاب والفقد التي ربطها هذا الجد المكلوم ربطاً وثيقاً بتعبير “روح الروح؟” من منا سيجرؤ بعد اليوم على استخدام هذا التعبير شاعراً باستحقاقه في هذا الاستخدام، بحقيقية تعبير اللفظة عن حالة الحب القائمة، بقوة تبيان التعبير عن كمية الشوق والوله وقد سبقه إليها جد غزاوي ودع حفيدته و”روح روحه” إلى الموت وأودعها كيس بلاستيكي تصل به إليه؟
تغيرت معاني الكلمات، صداها في الآذان، وقيمتها السمعية والمعنوية في النفوس. “كيرلي” ستذكرنا دوماً بيوسف “الأبيضاني الحلو” و”إبني عريس” ستذكرنا دوماً بالغزاوية المكلومة التي تزف شهيدها إلى قبره بالزغاريد، “يما قومي يما” ستوعزنا دوماً للصغيرة وهي تركض بجانب سريرالإسعاف يحمل جسد والدتها جثة هامدة، “اسم الله عليك يمة” ستحيلنا دوماً للثكلى وهي تحضن رأس ابنها طالاً من كفنه، “قوم ارضع حبيبي قوم” ستأخذناً دوماً للأم الشابة وهي تحتضن رضيعها الشهيد الحضن الأخير، “يا قلبي يا بابا” ستسحبنا دوماً للفتاة المكلومة راكضة في الشارع بعد سماع خبر استشهاد أبيها، “والله بشتاقلكم يما” ستجرنا دوماً لمشهد الأم الجالسة على الأرض في وداع كل أبنائها وأحفادها، كلهم بلا استثناء. أبعد أن تلبست هذه الكلمات بهذه المواقف الحارقة، أبعد أن تدججت هذه التعابير بهذه التجارب المروعة، أبعد أن اصطبغت الحروف والكلمات والجمل بكل هذا الدم وكل هذا الفقد وكل هذا الحزن والعذاب، أبعد كل ذلك سنعود لاستخدامها اعتيادياً، نسحبها من قواميسنا اليومية ولا كأن أهل غزة دفعوا ثمنا غالياً طاحناً فيها؟
لن يعود أي فعل أو قول أو مشهد لمعناه السابق بعد اليوم. كل الصور أصبحت حمراء وكل الكلمات أصبح مؤلمة موجعة وكل الأصوات أصبحت مرهبة مفزعة، حتى إذا ما وقع شيئ أرضاً محدثاً ضوضاء اعتيادية، سحب بصوته الذاكرة والروح إلى غزة، إلى كل الضوضاء القاتلة فيها، إلى كل الأصوات المفزعة التي روعت ولا تزال أطفالها. يقول أهل غزة الذين تتكالب عليهم اليوم أعلى تكنلوجيا عسكرية في العالم أن سماع صوت الصارخ رحمة وعذاب في ذات الوقت، فمن جهة، صوت الصاروخ يدل على أنه غير موجه إلى من يسمعونه، ذلك أن الصواريخ الحديثة أسرع من صوتها، وعليه فإن سماع صوتها يدل على أنها انفجرت مقدماً بعيداً عن سامعيه، إلا أن هذا الارتياح الوقتي يرافقه عذاب حارق من جهة أخرى، عذاب المعرفة اليقينية أن هذا الصاروخ انفجر على رأس آخرين، غافلين، لم يسمعوا صوته قادماً إليهم فأخذهم بصمته التكنولوجي الرفيع الرهيب. يتنفس الأحياء الصعداء لأنهم لا يزالون على قيد الحياة، وينوحون بمرار لأن آخرين حكم عليهم يقيناً بالموت. أبعد ذلك، يمكن لأهل غزة أن يعودوا لطبيعية التفاعل مع الأصوات المرتفعة؟ أبعد ذلك، يمكن لنا جميعاً أن نسمع بآذان “عذراء” مستريحة، لم تسمع الموت مراراً وتكراراً يهدر فوق رؤوس الناس وصيحات استغاثاتهم ترتفع من تحت الأنقاض وعويل فقدهم يرتفع إلى عنان السماء؟
أبعد كل ذلك سنسمع ونرى ونشعر كما كنا نفعل قبل 7 أكتوبر؟
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.