skip to content
Skip to content

إقرأ أيضاً

ديمقراطية سامة وتصلب شرايين سياسي
democratic-republican
WhatsApp Image 2023-10-12 at 13.46.04
كرم نعمة
أعراض مرض الديمقراطية تسبق اغتيال ترامب
ap24196042886688-1
WhatsApp Image 2023-10-12 at 13.46.04
كرم نعمة
إصلاحيون تحت عمامة خامنئي
b954816d-401f-44e3-9f1b-01f2fefe0bb7
WhatsApp Image 2023-10-12 at 13.46.04
كرم نعمة
استثمار زائف في ديمقراطية مملة
element5-digital-T9CXBZLUvic-unsplash
WhatsApp Image 2023-10-12 at 13.46.04
كرم نعمة
ازدراء الحقائق في العراق الأمريكي الإيراني
R
WhatsApp Image 2023-10-12 at 13.46.04
كرم نعمة
عزلة جو بايدن الأوروبية
AP21166435923906
WhatsApp Image 2023-10-12 at 13.46.04
كرم نعمة
..وخلق الله المرأة
WhatsApp Image 2023-10-13 at 09.24.41
أماني حماد
October 13, 2023
Photo by Musa Zanoun: @ Pexels فتيات ونساء في غزة (تعبيرية)
أماني حماد -

كأم، طالما أدهشتني، وأبكتني أيضاً، صور الأمهات الفلسطينيات اللواتي يشيِّعن أبناءهن بالزغاريد والتهاليل. ربما يصعب علي استحضار هذا الثبات، لأن أكبر مآسيَّ خلال تربيتي لأطفالي كانت انفطار كبدي عندما يجري أحد أبنائي إلي باكياً بسبب كشط في الركبة، التعايش مع الأرق بين آهات الحمى إثر التهاب بسيط في اللوزتين، أو الذوبان أمام انكسار ابنتي عندما أعاجلها بـ”لا” المدفوعة بحماية صحتها، وسط الحاحها لتناول المزيد من السكر مساءً. لا أستطيع أن أستحضر في ذاتي هذا الثبات الانفعالي الذي تتمتع به امرأة من اليمن، في مواجهة بكاء طفل جائع، أو أنين فتى جريح في فلسطين. ولا أتصور تصنع ابتسامة تتسرب من بين القضبان لتشد أزر ابن محكوم بست مؤبدات أو يزيد.

في محاولة ساذجة للوصول لفهم تلك النساء، طلبت من أصدقاء مختصين إطلاعي على بعض الدراسات التي تبحث في الفوارق النفسية والفيزيولوجية بين الرجال والنساء، خاصة فيما يتعلق بردود أفعال كل منهم تجاه الصدمات والضغوطات النفسية الشديدة، والعوامل الاجتماعية في التعاطي مع هذه الضغوط وفق محددات الفروق الجندرية في العموم. لن أسهب كثيراً في البحث في تلك الاختلافات التي تعتمد في الاغلب على متوسطات المجاميع، وتغفل التنوع الفردي المرتبط بتفاعل البيولوجيا والتربية والثقافة والتجارب الشخصية وسمات الشخصية الفردية في ردود فعل الأشخاص للضغط النفسي. إلا أنني اعتقدت أن هكذا بحث مهمٌ في التمهيد لفهم الخصائص الفريدة لتعاطي النساء عامة، النساء العربيات خاصة، والمرأة الفلسطينية بشكل أدق مع الضغوط التي يفرضها واقع الحياة تحت الاحتلال أو إلى جانب الغزاة. تعريج متواضع هنا لأشعر بجدوى ذلك البحث: تدَّعي بعض دراسات التصوير العصبي وجود فوارق تبعاً للجنس في نشاط الدماغ استجابةً لضغط النفسي الحاد، فتنشط في حالات الضغط النفسي المنطقة المرتبطة بمعالجة العواطف عند الرجال، بينما تظهر النساء في ظروفٍ مشابهةً نشاطاً أكبر في القشرة الجبهية الأمامية التي تحفز المشاركة في اتخاذ القرارات وتنظيم العواطف. ويرفض هرمون الكورتيزول المعروف بـ “هرمون الضغط”، مغادرة أجساد النساء مدة أطول مقارنة بأقرانهن من الرجال، ما يعني أن النساء يستغرقن وقتاً أطول للتعافي من آثار الإجهاد النفسي. وتميل النساء أكثر إلى التفكير في الأحداث التي سببت الضغط النفسي لهن، بينما يميل الرجال أكثر إلى استخدام التشتيت كوسيلة للتكيف. وبمفارقة غريبة، يبدو أن الرجال أكثر عرضة للاضطرابات الصحية المرتبة بالضغط النفسي، مثل ارتفع ضغط الدم، بينما تصاب النساء اللواتي يصارعن الضغط النفسي بالاضطرابات المناعية الذاتية والاكتئاب.

إجتماعياً، تترفّق أغلب الثقافات بالنساء وتسمح لهن بشكل محابٍ أن يعبِّرن عن مشاعرهن الشخصية، مقارنة بأقرانهنَّ من الرجال. هذا التعبير مقيَّدٌ بطبيعة الحال بالتعريف الجنساني للأفراد في المجتمعات، وهو أمر متغير عبر العصور، فما كان مقبولاً في مرحلة ما يعتبر خادشاً للحياء في مرحلة أخرى. تعبير النساء عن الخوف والقلق والتوتر مقبول، بينما ينحسر التسامح بشكل ملحوظ إذا عبرت المراة عن مشاعر الحب لرجل ما. لغوياً ترتبط مشاعر الخوف والقلق بالمرأة ضعفاً وجبناً ورقةً، فتجد الانجليزية تستخدم تعبير (hand wringing) الذي يترجم حرفياً إلى فرك اليدين، للدلالة على القلق الذي لا ينتج عنه فعل إيجابي، ويعتبر وصم رجل بهذا الفعل إشارة إلى ضعفه وقلة حيلته. ينفي القرآن عن الله صفة الأنوثة ويربطها بحب الحلي والخصومة التي لا تبين. في بلادي، كانت إحدى القريبات تؤنب ابني “ذو الخمس سنوات في ذلك الوقت” إذا بكى لأي سبب؛ بأن لا يكون “بنت”! وأن “يشد حاله” كالرجال!

تلعب هذه القواعد الاجتماعية دوراً مهماً في تشكيل سلوك النساء والرجال، وتوقعات المجتمع من كل منهم، وتصوراتهم الشخصية لأنفهسم. وقد يكون هذا التساهل المجتمعي مع التعبير الأنثوي عن الخوف أو الانكسار “على بؤس الاستنتاجات التي يفرزها تطبيقه في أغلب الأحيان”، أداةً نفسية واجتماعية مهمة مكنت النساء من التعامل مع الضغط النفسي بشكل أكثر مرونة. فالحديث عن المشاعر وتوصيفها حسب الخبراء، جزء أساسي من معالجتها، وخطوة أولى في رحلة التعافي ما بعد الصدمات. وقد تشكل مجموعات النساء اللواتي يتحدثن بانفتاح عن مشاعرهن، مجموعات مساعدة نفسية عضوية، لا يجد الرجل ما يشبهها في محيطه الاجتماعي، هو الذي يلجأ بحكم التركيب الفسيولوجي إلى الانشغال والتشتيت، واجتماعياً لا يسمح له بالتعبير علنياً عن ضعفه أو ألمه، وقد ينهره حتى الأقربون إذا تجاوز في تعبيره دمعة سريعة متحجرة على الحدقات. تحتم الثقافة العربية على المرأة أن تربي من هم تحت جناحها من الرجال؛ أبناءً أو إخوة، خاصة في الأزمان الصعبة على القوة، القوة التي لا تغرسها امرأة ضعيفة. المرأة العربية بمنظورنا هي المسؤولة عن فشل الأبناء “فالنجاح يعزى للأب حكماً”، وضعفها وخنوعها برأي السواد الأعظم من أفراد مجتمعاتنا العربية هو السبب الرئيس لضعف وخنوع الأبناء. حتى الموروث الديني يجعل الاختيار المدروس للزوجة عاملاً أساسياً في تحديد مصير الأبناء.

يقع هذا التعميم متماهياً مع الواقع، بطبيعة الحال متوسعاً أو مُضَيَّقاً تبعاً للقواعد الاجتماعية الملونة بجغرافيا وتاريخ البلاد، بينما تمسخ هذه الألوان إلى لون رمادي كالح في حالات النزاعات، فحرية التعبير عن مشاعر الخوف والقلق والإحباط التي تتمتع بها النساء بحكم التوصيف الجندري الاجتماعي تكون مقيدة في تلك الظروف. كل ما تقدم، يضع على المرأة بشكل عام، وبشكل أخص المرأة في مناطق النزاعات عبأً كبيراً، ومهمة شاقة، فرفاهية البكاء ليست متاحة لها، لحظات الضعف التي تستجمع فيها ذاتها، وتبحث عن إجاباتها ليست سهلة المنال، وحتى مجموعات الدعم العضوية قد تكون منشغلة بأزمات مشابهة. يتحتم على أم الشهيد أن تتمالك نفسها عندما يصلها خبر سقوطه أمام نيران الأعداء، عليها أن تزغرد، أن ترش الورد والحناء في جنازته، وأن ترفض قبول التعازي. على أم الأسير أن ترسم ابتسامة ترفع المعنويات، رغم رغبتها المكبوتة بالصراخ ملء رئتيها وخلع القضبان التي تحول بينها وبين ابنها أو ابنتها.

يقلص العقل الذكوري الخروج على تأنيث الضعف إلى حالات فردية تكاد تكون اسطورية ملحمية، غير عامة ولا تمثل الغالبية من النساء: فيحيي التاريخ الاسلامي عمة النبي القرشي التي قطعت رأس متلصص من الأعداء وألقته من فوق جدار الحصن عبرة لمن يجرؤ أن يقترب، ويدين الملك شارل السابع بالامتنان لبلوغه ملكه إلى عذراء أورليان، جان دارك، بينما في الطرف المقابل من البحر المتوسط تمثل جميلة بوحيرد البطولة في مناهضة استعمار أحفاده للجزائر. من جين اوستين إلى روزا باركس يرى العقل التقليدي خروج النساء عن أطرهن التقليدية الخجولة إلى مساحات محتكرة للرجال أمراً في أفضل حالاته ملهماً، ولكنه في الأغلب الأعم خارجٌ عن المألوف، ولا يصلح إلا قصةً قبل النوم. لن يستغرقنا البحث كثيراً لندرك أن العديد من النساء العاديات هن في الواقع بطلات غير عاديات وفقاً لذات المقياس الذي يرى في اعتناق الصلابة خروجاً على الطبيعة الأنثوية. رأيت في المرأة عامة والعربية بشكل أخص، ربما لقربي منها روحاً ومكاناً، صلابة لا في لحظات الاختبارات الوجودية كما في أمثلة النساء الأسطوريات آنفات الذكر فقط، بل في ممارسة الحياة اليومية في مناطق النزاع، لا في حالات الفقد المتأثر بالجو المشحون عاطفياً والبرمجة التي لا تقبل مخالفة فحسب؛ بل في لحظات الحياة الشحيحة أيضاً. تدرك امرأة تسمع أزيز القذائف المقتربة من بيتها أن الحياة هشة جداً، وتصر عن سبق إصرار أن تحتفل بها. في بحر من صور الموت والدم، لم أتمالك دهشتي أمام صورة تداولها الأصدقاء لمجموعة نساء، وأطفال ورجل، متحلقين حول قالب حلوى، مزين بالشموع، وفي الخلفية حطام مباني سوتها القذائف بالأرض، لا أحتاج الجامح من الخيال لأستحضر رائحة الموت التي تحيط بالمكان، رائحة الفسفور، الكبريت، الإس فور، ممزوجة برائحة الأدَم البشري المحترق، والدم، ورطوبة الهواء… خليط يجعل الاستمتاع بقالب حلوى عيد ميلاد الطفل محور الصورة أمراً غير طبيعي. لكنها المرأة التي تدربت على البحث عن الفرح وسط الركام، التي تستطيع أن تقنع الأطفال أن الشيء الذي يستحق تركيزهم في هذه اللحظة هو لهب الشمعة الراقص، والرائحة التي يختفي كل ما دونها هي رائحة قالب الحلوى فقط، والمشهد الذي سيذكرونه وسط كل هذا الدمار، هو مشهد الوجوه المبتسمة حولهم. المرأة، هي من جعلت ذلك طبيعياً. خلال زياراتي لمخيمات اللجوء السوري في مناطق مختلفة من الأردن والعراق لاحظت اهتمام النساء اللاجئات بترتيب الخيمة، والحفاظ على نظافة الآنية التي يستخدمنها للطهي، والتباهي بإنجاز الأبناء في الدراسة أو الحرفة. هؤلاء نساء فقدن كل شيء، وبدأن من هذا اللاشيء في خيمة في مهب الريح، تزورها زوابع الغبار في الصيف، وأزيز الرياح الباردة في الشتاء، بدأن بكل الأحوال. تزورهن بعد عام، فتجد الخيمة أصبحت “بصورتها المؤقتة نفسها” بيتاً من الحجارة والصفيح، وتجد أمام هذا البيت المؤقت أصص الزهر والنعنع والريحان. المخيم الذي يحمل في اسمه وفي شكله ومضمونه فكرة أنه مرحلة انتقالية، حياة ترانزيت إذا جاز التعبير، أين وجدت نساؤه الرغبة في صنع بيت من خيمة، استقرار من اضطراب، ونجاح من فشل؟ لازلت أقرأ عديد الدراسات التي أسعفني بها الأصدقاء، بحثاً عن إجابة لسؤالي: أنّى للمرأة هذه الصلابة؟
عوداً على ذي بدئ، ربما آن لنا أن نراجع الكثير من أدبياتنا، لغتنا، مفاهيمنا ونقاط البداية في دراساتنا الاجتماعية والسياسية، لنبحث في كنه هذه المنعة النسوية، علّنا نصادف ترياقاً للأمل، في عالم محكوم باليأس.

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.