إقرأ أيضاً
تصارعت فئات كثيرة ضعيفة في نيويورك الثلاثينيات والأربعينيات، الإيطاليون قدموا كثيراً من الأعمال التي رصدت هذه المرحلة في أفلام مثل الأب الروحي، وكان يا ما كان في أمريكا، حملوا أحقادهم من مدنهم القديمة في المتوسط، الأيرلنديون واصلوا احتساء الجعة والغناء بصخب في الحانات، الأفارقة قبضوا على البيانو وبصورة انتقامية وضعوه بين الطبول والأبواق ليعزفوا الجاز!
اليهود، لم يستقبلهم العالم الجديد سوى بتجاهل عميق يعتبر عملاً نبيلاً بالنسبة ليهودي قادم من قارة تنبذه وتعتبره بقايا وبائها التاريخي، ولكنهم وجود مشكلتهم التاريخية في انتظارهم، اليهود الآخرون، فمن يكره اليهودي أكثر من اليهودي نفسه، هذا سؤال توكيدي شهير طرحه هنري ميللر في أول أعماله!
أتى اليهودي إلى نيويورك محملاً بالضعة والكآبة والبارانويا، واستقبلته الشوارع المظلمة الصاخبة بالجرذان والبراغيث، الرطوبة والروائح النتنة، ولم تكن الشمس كافية لأن تستخرجه، أو لم يمنح الوقت ليفعل ذلك، أياً يكن، كان رجل في أناقة بنيامين نتنياهو وابتسامته العريضة التي تجهد لتخبئة أنيابه الصغيرة ينتظرهم على بوابات المشاغل الصغيرة والمعتمة ذات الأسقف الواطئة، ولدخول هذه الجحيم الرأسمالي الصغير بكل سماسرته ومدارئه ومنظميه ومراقبي العمال ومندوبي المبيعات على اليهودي القادم أن يقدم في أوراقه ما يثبت انتمائه للحركة الصهيونية، أن يؤجر صوته للآخرين، ليس مهماً أن يكون متديناً يعتبر هذه الحركة مناقضة لإرادة الله وتستعجلها بصورة محرجة، وكأنها تذكر يهوه بأن مجرد عجوز خرف وذاهل عن العالم لم يعد يصلح لقيادة هذا الشعب في تيهه، وليس مهماً ولو كان يسارياً يعتقد بأن الأرض كلها يمكن أن تصبح وطنه وأنه يمكن أن يعزف بجانب الأرمني، ويطبخ مع الفارسي، ويلعب الكرة مع الأفريقي، ويسجل الحسابات مع الهولندي، ويزرع مع البولندي، ويتدارس الأدب مع العربي، كل هذه أشياء غير مهمة أو جوهرية بالنظر إلى الشيكات الدورية التي ينتظرها بنيامين، وسيطه الصهيوني والوكيل لجهة غامضة ما الوحش الغامض الذي أرهق جيلاً كاملاً من المفكرين الكلاسيكيين ومن المؤمنين السذج ممن يتبنون نظرية المؤامرة للحصول على بعض من ملامحه.
الوكيل نتنياهو، لا تتغيب هذه الصورة عن أذهانكم، لو كنت مخرجاً سينمائياً لن أجد أفضل منه ليقدم هذه النوعية من الأدوار، أي أداء باهت قدمه ليوناردو دي كابريو في ذئب وال ستريت في حال مقارنته بأداء نتنياهو وهو يتحدث عن المشروعات المستقبلية لإسرائيل؟ بيع السمك في الماء.. أي تجارة مربحة يتقنها “بيبي”، ولكن من الذي يقف وراءه؟ من هو الرجل الكبير الذي يقف وراءه؟ الرجل الذي يظهر في نهاية الفيلم عندما يلف الكرسي الوثير لمواجهة الكاميرا؟
هل يمكن أن نستعير صورة اللورد بلفور لهذه الغاية؟
تبدو مناسبةً من الناحية الفنية، ولكنها غير كافية، فالصورة الأكثر تمثيلاً للرجل الكبير أقرب إلى أحد أعمام اللورد ممن قدموه إلى عالم السياسة، روبرت سيسل، كان رئيساً للوزراء وببساطة هو الرجل الذي رفض أي أسئلة اجتماعية يمكن أن تؤثر سلبياً على كفاءة الاستغلال الذي يجري في المستعمرات، ولم يكن، مثل قريبه، بلفور، مستعدين لتكون بريطانيا الملجأ الجديد لليهود، ليذبحوهم في أوكرانيا، أو يسحلوهم في شوارع وارسو، هذه ليست مشكلتنا ولا يجب أن تكون، وليذهبوا بقملهم وبراغيثهم بعيداً، وهو ما توافق عليه بلفور – المعادي للسامية – مع قادة الصهيونية، عملية ترحيل متكاملة فضحتها حنا أرندت في كتابها عن محاكمة إيخمان في القدس، إيخمان كان مجرد ترساً، الصهيونية والنازية، بينهما الكثير، ويوجد رجال في المنتصف مثل بنيامين، بابتسامته الواسعة التي تغطي بالكاد نابيه الصغيرين.
الرجل الكبير ليس شخصاً واحداً، هو نمط حياة متكامل تحضر فيه النقانق والبيض على المائدة والشاي عصراً والبراندي مساءً، ليس مستعداً للتوقف عند أي أسباب أو مبررات للتأخير، فهو يقدم الحكمة التي تدير المشهد وتضبطه وتحرص على دقة المواعيد وعلى ضبط تقلبات الأسعار، والعلاقة تحتاج إلى وكلاء صغار، يمكن تدريبهم في مدرسة “بيبي”، تطور وظيفي طبيعي، لن يكونوا جميعهم موهوبين، ولكن سيؤدون الغرض..
أناس ليسوا منا، هكذا يفكر سيسل وبلفور، ليسوا الجيران الذين نحب أن نلتقيهم صباحاً، وليسوا يشبهون الآخرين، لا يمكن أن يصبحوا منهم، مستر “بيبي” يمكن أن يتدبر دفعهم لأنه نفسه هو الذي يضعهم في الورش المعتمة، ويحصل منهم إيجارات غرفهم المتهالكة، أما الموقع فيجب أن يكون استراتيجياً، المهندسون يمكنهم احتساب المنطقة الأفضل، توجد لديهم الخرائط وقوائم الاستهلاك، الأرجنتين بعيدة، مدغشقر غير مناسبة، ما فائدتها؟ في المنتصف يا رجل.
ما الذي يوجد بين الشرق والغرب؟ العمولات يا صديقي… هناك مقولة مشابهة تنسب إلى عدنان خاشقجي..
المشترون في الشرق كثيرون، لديهم شهية واسعة، و”بيبي” يمكن أن يستعرض البضاعة بصورة جيدة، ويحصل على أسعار مناسبة؟
مئات الأطفال يموتون يومياً، ما المشكلة، هل توقفنا على تناول الشيكولاتة، أسميانها سويسرية أو بلجيكية، مع أن آلاف الأطفال يذهبون ضحية ثمارها المعلقة في الشمس الإفريقية، العالم ينسى مع الوقت، ولماذا صنعنا الأغنيات والأفلام والأبطال، ما الذي يفعله مارتن لوثر كينج وغاندي؟
هكذا يفكر بلفور وهو ينظر إلى “بيبي” المتجول في الأزمنة بالدور نفسه، السمسار، وصورة واحدة لا يحب أن يتوقف عندها أحد، في وسط ذلك كله، بيبي الصغير، يائير، يجلس تحت شمس ميامي مستجماً، فلا أحد يتعلم الدرس.. السماسرة لا يرسلون أبناءهم للحرب.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.