إقرأ أيضاً
أتفهم ثورة الغضب التي عصفت بالسيد نفتالي بينيت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق والسياسي اليميني المتطرف جدا ردا على حديث الملكة رانيا العبدالله في مقابلتها الأخيرة على شبكة سي أن أن.
لم يكن رد السيد بينيت أكثر من ثورة غضب لا تحمل أي رد موضوعي، بل تجاوز رئيس وزراء إسرائيل الأسبق كل حدود اللياقة والتهذيب بقوله “عار على الملكة” ووصف ما قالته بالأكاذيب. وهذا تصريح كما هو الوصف لا يمكن تصنيفه سياسيا بقدر ما هو تعبير عن ثورة غضب حقيقية وعاصفة.
كثيرون حول العالم يتهمون سياسات إسرائيل بالعنصرية، والملكة في حديثها المتلفز نسبت وصف الفصل العنصري بموضوعية وذكاء إلى مؤسسات أممية ودولية تمثل دول العالم، لكن السيد بينيت أثاره حديث الملكة رانيا العبدالله لأنه لا يستطيع أن يتهمها بأنها غير معتدلة سياسيا مثلا، ولا يمكن له أن يربطها بالتطرف الديني، ولا هو قادر على ان يجد في حديثها كله ما يضعها في خانة “اللاسامية”، وحين نعرف أنها من أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم، وأكثر شخصية نسائية تأثيرا في وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى الكوكب، فإن كلامها سيكون له أثره العميق في نفوس ملايين الناس.
الملكة رانيا، سيدة بالغة الأناقة بمقاييس تصنيف عالمية (وهو ما كان يثير المحافظين المتدينين عليها)، وتيارات الإسلام السياسي في الأردن دخلت معها بشكل غير مباشر في خصومة سياسية وهاجمت أكاديمية تعليمية حديثة تحمل اسمها فلا يمكن والحال كذلك أن تنجح محاولة ربطها بتأييد حماس مثلا.
حضورها الطاغي على وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها اللغوية المتفوقة بالانجليزية خلق للملكة المنحدرة من أصول فلسطينية متابعة أقل ما يمكن وصفها به بالمليونية خصوصا في العالم الغربي، ولم تسع الملكة إلى تأطير ذاتها الشخصية او الملكية في حدود تلك الأناقة المبهرة، لكنها خلقت إطارا موضوعيا مستندا على محاور : التعليم ورعاية الطفولة، واستطاعت الملكة أن توظف ذكاءها وقدراتها في منتديات دولية مهمة لا يمكن أن يكون حضورها العضوي فيها قائما على أنها زوجة الملك وحسب، فقد اختيرت عام ٢٠٠٢ عضوًا في المجلس التأسيسي للمنتدى الاقتصادي العالمي، وكانت توظف ذات الحضور الذكي واللافت في أي فعاليات او منتديات تعمل على تجسير الثقافات، فمنحتها أوروبا جائزة لشبونة (شمال -جنوب )من مجلس أوروبا عام ٢٠٠٨.
الملكة رانيا استطاعت أن توظف ذلك كله في مخاطبة الغرب وعلى مدار سنوات طويلة لتترسخ شخصيتها كراعية حقيقية للطفولة والتعليم الصحي، فإلى جانب كتب قصصية للأطفال كتبتها باللغة الإنجليزية وحازت على تصنيف الكتب الكثر مبيعا في مؤسسات نشر في نيويورك، فقد دخلت ميدان المبادرات الفاعلة في الأردن في حقول التعليم والصحة والتدريب والتكنولوجيا، واستطاعت خريجة الجامعة الأمريكية أن تخوض معاركها الشرسة في مواجهة قوى محافظة رافضة للتغيير، وفي أرشيفي المهني مقالات ناقدة بشدة وقسوة للملكة كتبتها في خضم أزمات محلية أردنية عديدة، لم تمنع القصر الملكي من أن يوجه لي الدعوة لحضور لقاء مع الملك عام ٢٠١٩، ولا زلت أزور الأردن محتفظا بعلاقات جيدة مع الديوان الملكي، وهذه إشارة مهمة تتجاوز الاستعراض الشخصي لبيان حجم الثقة الذاتية في المحيط الحيوي لرأس الدولة الأردنية.
الملكة رانيا، والدها الدكتور الراحل فيصل الياسين من طولكرم، وعمل طوال حياته في الكويت طبيبا للأطفال، وربما هذا ما يفسر تعلقها برعاية الطفولة وشغفها في تحقيق ذلك، وتلك “التغريبة الفلسطينية” في الكويت كان لها أثرها في التكوين الشخصي للملكة التي عرفت بالتجربة الشخصية ما يعنيه الاحتلال، فقد شهدت عيانا مع أسرتها احتلال الكويت وعانت من تداعياته، ونشأتها في الدولة الخليجية كان له أثره عليها فيما بعد في كل زيارة تسنت لها إلى الكويت حيث لم تكن تخفي عرفانها الدافيء لذلك البلد.
وهي في النهاية ، زوجة الملك الأردني عبدالله الثاني، ذات الرجل الذي تحترمه أوروبا وتمنحه جوائز السلام، وأحد أكثر قوى المواجهة المباشرة مع الإرهاب طوال سنين حكمه، والخصم السياسي لحماس وقد أعلن عن إغلاق مكاتبها في عاصمة ملكه في العام الأول من توليه العرش.
هذا كله سيثير حفيظة السيد نفتالي بينيت بالتأكيد، وهو السياسي المتطرف وزعيم حزب إقصائي يدعو إلى دولة “يهودية” ديمقراطيتها تشمل مواطنيها اليهود فقط، وحقوق أقل بكثير للعرب في تلك الدولة التي يسعى لتحقيقها بينيت، وهي دولة تتجاوز جغرافيتها في أدبياته التي يؤمن بها الحدود المرسومة في القانون الدولي.
سيغضب السيد بينيت بالتأكيد وهو ابن المهاجرين اليهوديين من كاليفورنيا بعد حرب ١٩٦٧، وقد شارك عائلته الهروب طفلا في عامه الأول إلى كاليفورنيا أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣.
بينيت يرى حلمه في دولة من النهر إلى البحر، وهو من أول رعاة توسعة المستوطنات، والجدار العازل، وتقليص الحقوق الإنسانية للفلسطينيين على أرضهم لغاية تهجيرهم، وهو داعم رئيس في الكنيست لكل تشريعات تساعد على الطرد والمصادرة، وهو زعيم حزب البيت اليهودي، الحزب المتطرف الذي يدعو إلى أقصى حد من الاستيطان، والحزب الذي يرفض المفاوضات وأي حلول سلمية تفضي إلى دولة فلسطينية.
سيغضب السيد بينيت بالتأكيد..لأن ابنة طبيب أطفال من طولكرم، هي ملكة وزوجة ملك، لا يستطيع أن يرشقها بتهمة مساندة الإرهاب، أو يصفها باللاسامية، فقال عنها أنها “كاذبة”، ولم يكشف لنا ما هي الكذبة على الأقل.
سيد بينيت..
لو كنت مكانك..لفكرت كثيرا في طريقة اختيار معاركي وخصومي، لكنني أشكر الأقدار أني لست مكانك ولا حتى قريبا منك.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.