إقرأ أيضاً
تتّفق الروايات المتداولة منذ سنوات على أن ما يحدث من إشكالات على الحدود الاردنية السورية مرتبط بتجارة المخدرات، إعتماداً على مجموعة من الحقائق، أولها أن سوريا أصبحت خلال السنوات الأخيرة أكبر منتج لمادة الكيبتاغون في العالم، وعلى أن دول الخليج والسعودية تحديداً هي أكثر مناطق العالم إستهلاكاً لهذه المادة، وخصوصاً عند معرفة أن الكيبتاغون مادة زهيدة الكلفة وأستطيع القول من خلال معرفتي بهذا الموضوع من خلال عملي الطبّي في سوريا أن حبة الكيبتاغون يرتفع سعرها بين بلد المنشأ في سوريا أو لبنان ومدن الخليج لأكثر من مئة ضعف مما يجعل التجّار يبذلون كل ما في إمكانياتهم لخداع أجهزة الجمارك وحرس الحدود، وأخيراً أتت الجغرافيا التي ظلمت الأردن ووضعته حاجزاً بين بلاد الإنتاج وأماكن الإستهلاك وخط الدفاع الأول عن دول الخليج في مواجهة سياسة الإغراق بالمخدرات، مما حمّل الاردن أعباءاً كبيرة ووضعه في معاناة يومية مع هذه الكارثة الإجتماعية والصحية والأمنية.
ولا يكتمل فهم هذا الوضع المعقّد دون معرفة ان عمليات التهريب هذه لا تتم بمجهودات عصابات إجرامية تقليدية بل تتم تحت إشراف وتوجيه من أعلى القيادات العسكرية السورية وبالشراكة مع ميليشيات إيرانية مما يجعلها عمليات منظّمة تُسخّر من أجلها إمكانيات دول، وبإمكان من يرغب بمعرفة المزيد من التفاصيل العودة إلى كثير من الأبحاث والدراسات الدولية المتوفّرة على الإنترنت والتي حدّدت بالتفصيل الوحدات العسكرية وأسماء قادتها بما يجعل للموضوع أبعاداً سياسية تتجاوز مجرّد الربح المادي.
كل ما قيل حتى الآن معروف ولا خلاف حوله، ولكن منذ سنوات كان لعصابات التهريب أهدافاً أخرى في الاردن، لأنها ترافقت منذ البداية مع عمليات تهريب الأسلحة وكان يُنظر للموضوع بإعتباره طريقة أخرى لتحقيق مزيد من الأرباح، ولكن الأمور تطورت خلال الفترة الأخيرة لتكشف عن مخطّط مُتكامل يستهدف إستقرار الاردن ومن الممكن إستعراض بعض محطاته.
فبعد أيام من حرب غزة إعتصم آلاف من عناصر الحشد الشعبي العراقي على الحدود العراقية الاردنية مطالبين بفتح الحدود والتوجه بمسيرات مليونية عبر الاردن الى الحدود الاسرائيلية لدعم غزة، رغم أنه كان بإمكان هذه الآلاف التوجّه عبر سوريا ولبنان من الكوريدور المفتوح من معبر القائم-البوكمال على الحدود السورية العراقية حتى إسرائيل دون أي عوائق، وترافق هذا الإعتصام مع التهديد بالدخول عنوةً إلى الاردن مما أوجد تحدياً أمنياً جديداً للجيش الاردني.
وفي نفس الوقت أتت دعوة الناطق الرسمي بإسم حركة حماس “ابو عبيدة” الشعب الاردني للتحرّك والتظاهر “أنتم يا أهل الاردن كابوس الإحتلال الذي يسعى ويجتهد لتحييده وعزله عن قضيته”، وقد تحدثت وسائل إعلام مرتبطة بحماس أن مظاهرات حاشدة خرجت تلبيةً لهذه الدعوة من الحركة الإسلامية وملتقى دعم المقاومة ومردّدين شعارات التمجيد بابو عبيدة “يا ابو عبيدة طلّ وشوف نحن رجالك عالمكشوف”!، رغم أن علاقات حركة حماس بالاردن شهدت خلال السنوات الاخيرة كثيراً من التقلبات ولكن يبدو أن نفوذ حركة حماس واسع بين الإسلاميين في الاردن وبين العوام الذين يبحثون عن أي إنتصار على إسرائيل حتى لو كان غير حقيقي.
وإرتبطت هذه التطورات مع تغيير واضح في طبيعة العمليات التي تتم على الحدود السورية الاردنية والتي أصبحت بعيدة عن مجرّد تجارة مخدرات، بل تحوّلت إلى عمليات إقتحام عشرات من المسلحين للحدود الاردنية ووقوع إشتباكات واسعة ولساعات طويلة مع الجيش الاردني وسقوط قتلى وجرحى من العسكريين الاردنيين، وكان اللافت أن إزدياد أعداد “المهربين” المشتركين في العمليات لم يكن مرتبطاً بزيادة كمية المخدرات، بل بالعكس كانت كمية المخدرات قليلة وزهيدة القيمة بينما كانت الأسلحة والمتفجرات التي بحوزتهم كبيرة وتتضمّن صواريخ مضادة للآليات وألغام ومتفجرات وبنادق قنّاصة، بما يوضّح أن الهدف الحقيقي هو أمن الاردن واستقراره ويأتي في سياق مخطّط ايراني، وأنه لا يمكن فصل ما يحدث على الحدود الاردنية السورية عن ما تقوم به ايران في المنطقة من لبنان وسوريا حتى باب المندب.
ولكن إذا أردنا أن نتابع بنفس الصراحة فعلينا التساؤل، هل تعتقد ايران أن إستهداف أمن الاردن عملية سهلة وأن هناك إمكانيات واقعية لضم الاردن الى الدول العربية التي تهيمن عليها ايران مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة رغم أن الهيمنة الايرانية لم تجلب لشعوب هذه البلدان سوى المآسي والكوارث، ثم هل يعتقد النظام الايراني أن هناك في داخل الاردن من ينتظر أي إشارة للتحرّك وأن إدخال أسلحة قد يقوّي من شوكة هذه الأطراف.
وممّا يُساعد على وجود مثل هذا الإنطباع أن الخطاب الذي يتردّد في أغلب النقابات الاردنية وفي كثير من وسائل الإعلام وحتى عند الكثير من أعضاء مجلس النواب لا يختلف كثيراً عن خطاب حركة حماس من ناحية رفض السلام مع إسرائيل ومن ناحية نشر مشاعر الكراهية ضد كل الاطراف التي تقف مع استقرار الاردن مثل الدول الغربية ودول الخليج التي يعاديها التيار الإسلامي، بل هناك من جمهور حماس بالاردن من يؤيّد مواقف وسياسات النظام الايراني رغم كل ما يُضمره من شر لهذا البلد.
ويبدو التأييد الذي تتمتع به حماس عند جزء من الشارع الاردني مستغرباً لأن النموذج الذي قدمته في أمارتها الإسلامية في غزة لا يشجّع على الإقتداء به، فهو لم يقدّم لسكان القطاع سوى حياة بائسة تقطعها كل فترة عمليات تستهدف إسرائيل تؤدّي الى حلقة جديدة من الدمار والموت المجّاني الذي تروّج له حماس بإعتباره إنتصار لتتابع تقليداً سارت عليه الأنظمة والمنظمات العربية خلال العقود الماضية وهو الإحتفال بالنصر بعد كل هزيمة، ورغم وجود معاهدة سلام بين الاردن وإسرائيل ورغم أن التعاون الإقتصادي بين البلدين يخدم الاردن ويساعده على تجاوز بعض أزماته، ومن الأمثلة عليه خروج آلاف الاردنيين قبل سنوات إحتجاجاً على إتفاق إستيراد الغاز من إسرائيل تحت شعارات “سيادة الاردن خط أحمر” “غاز العدو إحتلال”، مع ان الحكومة أوضحت أن هذا الإتفاق يوفّر على الاردن 600 مليون دولار سنوياً، بحيث يبدو وكأن الحكومة الاردنية تتعامل مع شعب يعيش أغلبه في عصر الشعارات الخشبية المنقرضة ولا يأبه بمصالحه الإقتصادية وحياة أبنائه.
ولكن الواقع على الأرض مختلف كثيراً عن حسابات الايرانيين فرغم ان الاردن بلد صغير ومحدود الموارد ولكن لديه جيش حديث وأجهزة أمنية مُحترفة وشبكة علاقات اقليمية ودولية أمّنت لهذا البلد إستقراراً رغم وقوعه في قلب اكثر مناطق العالم إضطراباً وحروباً أهلية ودول منهارة وفاشلة، بل إن توفّر الخدمات الرئيسية في الاردن من كهرباء وماء وغاز وغيرها يعتبر معجزة حقيقية ضمن الموارد المحدودة لهذا البلد.
ولعل النقطة الاساسية التي لم يدركها الايرانيون وربما بعض عملاءهم في الداخل الاردني أن إستقرار الاردن خط أحمر على المستوى الإقليمي لأنه يشكّل حاجزاً لحماية دول الخليج، وخط أحمر على المستوى الدولي فهناك إلتزام غربي وأميركي تحديداً بإستقرار الاردن، ولعلّ الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للجنود الفرنسيين في قاعدة الرويشد الجوية في الاردن في عيد الميلاد الأخير، وكذلك وجود وحدات امريكية في قاعدة الملك فيصل الجوية في الجفر، وبعض النظر عن حجم هذه القوات ولكن للوجود العسكري الغربي والاميركي تحديداً قيمته المعنوية والتي تعني وجود إلتزام في الدفاع عن هذا البلد عند اللزوم. ولذلك ورغم الهدوء والحكمة التي ميّزت تعامل السلطات الاردنية مع الأزمات التي تواجهها ولكن ذلك قد لا يكون كافياً في بعض الأحيان وقد ترى فيه بعض الأطراف قصيرة النظر مؤشراً على الضعف، ولذلك من الممكن البحث عن وسائل أكثر حزماً في الرد على الاستفزازات الايرانية خصوصاً ان هذه الحكمة لم تفلح حتى الآن في تغيير السلوك الايراني، وقد كان الاردن أول من أطلق جرس إنذار للتحذير من الهلال الشيعي والذي لم يكن وقتها قد تمدد ليشمل اليمن وغزة، لتبدو الاردن اليوم مُحاطة بالأعداء من ثلاث جهات، كذلك يبدو الطلب أو المراهنة على أن النظام السوري سيتوقّف طوعاً عن تجارة المخدرات ساذجاً، ولكن يبقى الموضوع الأهم والأكثر خطورةً هو وجود أطراف داخلية لا تقيم وزناً لإستقرار الاردن، وهذا يتطلّب رداً حازماً يتناسب مع الأذى الذي قد تلحقه هذه الأطراف في الاردن، أمّا من ناحية الترويج عند أطراف اردنية شبه رسمية لخطاب الكراهية للسلام والغرب فهو موضوع لا يقلّ أهمية عن كل ما سبق لأنه يساهم في صنع الرأي العام ويبدو فيه وكأن الحكماء يجارون المزاج الشعبي للعوام ولو على حساب المصلحة الوطنية العليا للاردن، وقد يكون هذا موضوعاً لمقال مقبل.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.