إقرأ أيضاً
يلفت المفكر الاقتصادي هيرناندو دي سوتو الانتباه إلى أن قيمة البسطة والميزان والفواكه العائدة للتونسي محمد البوعزيزي والتي تسببت محاولة مصادرتها الى اطلاق الشرارة الأولى للربيع العربي كانت في حدود 225 دولاراً أمريكياً.
محاولات البوعزيزي لمواجهة السلطة المتمثلة في الشرطية فادية حمدي لم تسعفه في المحافظة على أصوله المنتجة، والجزء الأهم في ثروته الشخصية المحدودة، وأمام استماتة البوعزيزي وظفت الشرطية سلطتها غير الرسمية وغير القانونية، ووجهت صفعة لوجه البوعزيزي، وأضافت الإهانة إلى الضرر حسب التعبير الإنجليزي، ليشعل البوعزيزي النار في جسده، ومعه اشتعلت المنطقة العربية بأكملها.
يفصل دي سوتو الخسائر المادية المباشرة التي لحقت بالبوعزيزي نتيجة المصادرة، وكانت على التقريب كما يلي:
- 25 كيلوجراماً من الإجاص.
- 12 كيلوجراماً من الموز.
- 35 كيلوجراماً من التفاح.
- ميزان إلكتروني.
- مستلزمات للتواجد في السوق، أقفاص وعواض خشبية.
كانت أصول ومبيعات البوعزيزي تولد دخلاً يزيد قليلاً عن 70 دولاراً أمريكياً في الأسبوع، أي أنه يحقق عائداً على الاستثمار يزيد عن 100% كل شهر، وهذه نسبة لا تطمح لتحقيقها كبريات الشركات في العالم، وهكذا يمكن أن تخدعنا الرياضيات في كل مرة، حيث أننا تجاهلنا ما يعرضه البوعزيزي بجانب البضاعة، وهو شيء لا يمكن تقديره بثمن، فالشاب الذي يعول أسرة من سبعة أفراد، كان في الحقيقة يعرض نفسه عارياً في مواجهة العنف والظلم، يلتحم يومياً في مناجاة شخصية وسرية للغاية من أجل ترميم كرامته التي تتأذى بشتى الصور، وهي الكرامة التي أصبحت هشة لتوصله إلى نقطة الانفجار، ولكنه انفجار تجاه الذات.
لماذا لم يرد البوعزيزي الصفعة لفادية حمدي؟
فادية إصبع صغيرة لوحش يمتلك آلافاً مؤلفة من الأصابع، ومعدةً تستطيع أن تهضم أي شيء وكل شيء، ولذلك، فالرد بصفعة كان سيعرضه للسحق تحت حذاء وحش السلطة الذي لا يرى أصلاً ما الذي تفعله قدماه الثقيلتان على الأرض. كان الموت السريع هو خيار البوغزيزي ليوقف خيار الموت البطيء الذي يعيشه، أما خيار رد الصفعة فلم يخطر بباله على الأرجح ولا كان جزءاً من برمجته الاجتماعية والنفسية.
كانت حادثة البوعزيزي عود الكبريت الذي أشعل المنطقة، فالمبلغ الضئيل 225 دولاراً، أسفر عن خسائر فادحة وصلت إلى تريليونات الدولارات، ولم يعد ممكناً منذ تلك الحادثة ألا أن تكون نقطة تعبر في إحداثيات التفاعل والتشابك لجميع الأحداث التي لحقتها.
كان الصراع قائماً على الشارع، الدولة ترى أنها هي من منحته للمواطنين، غير ناضجي الوعي وغير المؤهلين لأداء أي دور سياسي، فالدولة في المنطقة العربية هي دولة شبيهة في تنظيمها بالنسخة الأصلية للدولة التي تطورت في الغرب، ولكنها مجرد نسخة بالكربون، تدرك من داخلها أنها ضعيفة وباهتة، وأنها فرضت أصلاً على مساحة من الأرض حُدِدَت وفقاً لمساحي القوة في التنافس الاستعماري، والدولة التي تعرف في قرارة نفسها أنها شبه دولة، تتعامل مع المواطن، في معظم الحالات والأحيان، على أنه شبه إنسان! كما في السماء كما على الأرض!
كان جزءاً من مأساة البوعزيزي هو الصراع على الشارع بوصفه المنطقة التي تتصادم فيها مظاهر السلطة مع تساؤلات المواطن، ونقول تساؤلات لأن المواطن، في معظم الدول العربية، لم ينتقل بعد إلى مرحلة التطلع أو المشاركة أو المزاحمة، أو تحرياً للدقة، فإن المواطن انتقل بدرجة متفاوتة بين بلد وآخر من مرحلة التساؤل إلى مراحل أخرى جميعها لم تكن كافيةً لنقله إلى مرحلة المواطنة الكاملة، فهو رعية مرشح حسب الظروف لأن يكون أداة أو محسوباً أو ناخباً يمتلك صوتاً غير مؤثر، لأن أحداً لا يمكن أن ينازع السلطة التي تماهت على الدولة، واستلمتها على سبيل الوديعة، شيئاً من الأمر.
بصورة أو بأخرى، تنبه يوسف شاهين لهذه القضية، صدحت ماجدة الرومي في فيلمه “عودة الابن الضال”:
أنا مش تبع مخلوق يا سيدنا البيه
أنا حُر في إللي يقول ضميري عليه
وإن كنت تُحكم جوا ملكوتك
الشارع الواسع فاتح لي إيديه
الشارع لمين الشارع لنا
الشارع الواسع لنا، عبارة صحيحة إلى حد ما، ولكن الشارع أتى واسعاً ليسمح بمرور المواكب العسكرية والدبابات والمدرعات، وكأنه يصر على أن يكون من جديد نقطة الالتقاء بين الفرد والسلطة، الالتقاء الذي يمكن أن يتحول إلى اشتباك وصدام، ولكنه غير مؤهل لأن يصبح مصدراً للتفاهم والتوافق.
هل تعلمنا شيئاً من قصة البوعزيزي؟
يوجد فهم غبي لحركة التاريخ، كما أن معظم مكونات العسكريتاريا وبقية تنويعات السلطة في العالم العربي لم يحققوا نجاحاً كبيراً في تفهم ديناميكيات المجتمع التي تخضع في بعض التفاصيل للمقدمات المنطقية وتؤدي إلى نتائج متوقعة، ولكنها في السياق العام، وبحيث أن الإنسان جرى تقديمه بوصفه سوءاً للفهم ومصدراً للالتباس أمام الطبيعة وقوانينها، فالمقدمة والنتيجة لا تعملان بهذه الطريقة المباشرة.
الرؤية القاصرة تدفع لحالة الثقة التي فرضت نفسها بعد الربيع العربي ووضعت تهديداً مبطناً بإنتاج نوعية أفضل من الديكتاتوريات أكثر قدرة على السيطرة والاستدامة، ولكنها لم تتطلع أبداً لقراة حالة البوعزيزي، وملايين مثله، ممن وصفهم بيتر وورسلي قبل عقود من الزمن بأصحاب الدخل المنخفض، والمهارات المنخفضة، والوضع المتدني، والأمن المتدني.
لا توجد خطوات عملية لتدارك الأسباب التي أدت إلى وجود البوعزيزي، وما زالت المنطقة العربية تنتج أمثاله بشراهة من أجل المحافظة على حالة الشبه، ووضعية الـ(كأن) حسب تعبير دكتور علاء الأسواني، ولذلك، فإننا أهدرنا فرصة تعلم أغلى درس في تاريخنا الحديث على الرغم من تريليونات الدولارات التي أهدرت، لنكون أكثر تلاميذ التاريخ غباءً وغفلة وبلادة.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.