إقرأ أيضاً
الذين يعملون كثيراً يتقشفون في اللغة، بمعنى أو بآخر، لغة الزراعة والحصاد، مختلفة جوهرياً عن اللغة الثرثارة التي تستخدم في المقاهي، وفي الريف الفلسطيني وجدت كلمة مثل (فش) والتي تعني لا يوجد! تخلص التعبير الفلسطيني من الميم التي تلازم تعبيراً مصرياً مشابهاً (مفيش)، والذي يعود إلى (ما فيه شيء)، وتحولت الشين إلى حرف النفي، بديش، معيش، إلخ.
الموضوع ليس متعلقاً باللغة لأن الأمر يمكن أن يقودنا إلى التساؤل حول الصرخة التي يطلقها الطفل الذي يتعرض أحد أطرافه للبتر من غير تخدير، هل هي منتج لغوي من الأساس؟ ومن الأساس، ما دمنا ندخل إلى هذه المنطقة الصعبة والثقيلة نفسياً، أن نتساءل لماذا يفقد طفل، أي طفل، أطرافه؟
فش يعني.. فش، خلاصة قالها أكاديمي فلسطيني يعيش في أوروبا بعد حوار عن مصطفى البرغوثي، والدفع عن التساؤل حول البديل الذي يمكن أن يقدم للفلسطنيين والعالم، البديل الذي كان الملك عبد الله الثاني تساءل عنه قبل فترة وجيزة من الحرب على غزة مستخدماً وصف الجيل الجديد.
يظهر مصطفى البرغوثي بصورة مكثفة، تفضل القنوات الغربية استضافته، يتحدث الإنجليزية بصورة مريحة، ويردد شعارات يمكن أن تتمازج من فضاءات المجتمع المدني، وما زال فاعلاً على الأرض، ومع ذلك، يرى صديقنا، وأشاركه الرأي، أنه يمكن أن يكون جزءاً من فريق، ولكن شخصيته لن تمكنه من التعامل بإيجابية مع فكرة العمل الجماعي، ولا أحد في الأوساط السياسية الفلسطينية، وخاصة في رام الله، يمكن أن يصبح جزءاً من فريق، هذا رأيي الشخصي.
الهتافات لبرغوثي آخر، شائعة في رام الله، أعني مروان، ويمنحه الحبس لفترة طويلة حصانة من النقد لجانب من تجربته كان عنوانه ملف “بذور السلام” الذي كان ملفاً تطبيعياً ألقي في حضن البرغوثي بعد اتفاقية أوسلو، ويظهر أن الرجل تنفيذي من الدرجة الأولى، ولكنه ليس صاحب رؤية، وسيكون مخيباً لو اعتبرناه النسخة الفلسطينية من نيلسون مانديلا.
جميع الأسماء التي طرحت قبل تفجر الوضع في غزة لم تعد مقبولة اليوم، ولم يتمكن التدفق العاطفي من إنتاج حالة عملية، وحالة الانفعال تدفع لأكثر الأفكار تطرفاً وغرائبية، البعض يهتف للملثم (أبو عبيدة)! وكأنه زعيم تنظيم ومنظر فكري، مع أنه في الحقيقي شاب يجيد الإلقاء ويمتلك قدراً، لا يخفى من الكاريزما، ولكن منذ اللحظة الأولى، كان واضحاً أنه يمكن أن يقول الرسالة وعكسها، فرسالته عالية النبرة (إعدام أسير كل ساعة) نفيت خلال ساعات، وأصبح هو نفسه، يعرض صفقات الجملة والتجزئة في موضوع الأسرى.
الثورة الفلسطينية أنتجت سلسلة من صراع الأنوات (جمع الأنا). جورج حبش يخرج على عرفات، ليخرج حواتمة بعدها عن حبش، ومن حواتمة يخرج فريق فيجد أن حصته من شظايا الأنا ضئيلة، فيعود إلى عباءة عرفات مع ياسر عبد ربه، الذي يمكن أن نسأل عن سبب تواريه والمعادلة التي وضعته جانباً، وأن نسأل كيف للفلسطينيين بشكل عام، وكيف يستغرق بسام أبو شريف في التفاصيل التي تتيح له أن يرفد المكتبة العربية بكثير من المؤلفات، ويبقى بعيداً عن رفد الحركة الوطنية الفلسطينية بجملة مفيدة!
أتحدث عن أشخاص أكبر من والدي سناً، وفي الوسط توجد شخصيات أخرى، تحاول أن تبحث عن مكان (تحت الشمس)، ناصر القدوة أصغر من والدي بسنوات قليلة، ولكنه ما زال يعيش في عباءة ابن أخت القائد الزعيم، ويبحث عن شرعيته داخلها، مع أن يمتلك أكثر من ذلك، ولكنه أسير حصته التي أنتجها تزاحم الأنوات.
المقاطعة، الوصف الشائع لمقر السلطة الوطنية، ليست المكان المناسب لينتج الشخصية الفلسطينية التي يمكن أن تحمل مشروعاً وطنياً، وبعض من يطرحون أنفسهم للحديث والتنطح يسحبون من رصيد الصورة الذهنية للنضال الفلسطيني باستغراقهم في تفاصيل الرواتب والتمويل والتنسيق، ويستمدون قوتهم من قدرتهم على التواصل مع الجانب (الإسرائيلي)، أما الشرعية فليست موضوعاً يحضر بأي قدر من الأهمية، فالشرعية ضربت وبقيت تنزف لتتحول السلطة من مشروع وطني إلى مجرد بلدية كبيرة تعاني من مشاكل التمويل.
فوق ذلك تنتج السلطة في حد ذاتها إشكالية وجود (شعوب) فلسطينية، شعب الضفة، وأطيافه، الطبقية والأيديولوجية، وشعب غزة، وشعب اللاجئين الذين أصبحوا في وضع معقد ثقافياً واجتماعياً، بحيث لم يعد ممكناً الحديث عن قدرتهم على إنتاج أي تمثيل حقيقي من خلال أدوات منظمة التحرير الفلسطينية.
أين حماس؟ أو أين الحماسـ (ـات)؟
عملياً، لا يمكن الحديث اليوم عن حماس واحدة، توجد حركة ميدانية غير معنية بتعريفها داخل السياقات التقليدية للحركة الإسلامية، وهي حركة اكتسبت خبرة واسعة من خلال مواجهتها للمشكلات اليومية في قطاع غزة، وقمعت مبكراً محاولات السلفية الجهادية لدعشنة القطاع، ولكنها حركة تعاني من مشكلات تتعلق بمستوى النضج السياسي، فالحركة تحدثت عن السلام سابقاً من منطلق الهدنة! هدنة لعشر أو عشرين سنة، وكأنها تقول لـ(إسرائيل) امنحونا سنوات لنتجهز ثم نقضي عليكم!
المنطق السياسي يتحدث عن الدخول في عملية سلام من غير تعليق أختام انتهاء الصلاحية في مكان بارز، حتى لو كانت النوايا غير ذلك.
هذه القوى الميدانية في حماس، تختلف عن القوى التي تربت في مدرسة الإخوان المسلمين واعتنقت منهجيتها، وما زالت تحمل مسؤوليات كبيرة في التواصل والتمثيل، خالد مشعل واسماعيل هنية، وهذه المدرسة تعرف أنها لا تستطيع أن تفرض على أرض الواقع شيئاً لا يمكن قبوله من سلطة الأنفاق.
باستثناء بعض الأسماء التي تورطت وأمعنت في الفصائلية والتنسيق، فلا يوجد ما يدفع لتخوين أحد، أو إصدار الأحكام تجاه أي شخص، فالقضية الفلسطينية، كما يقول إداورد سعيد، التجربة الفلسطينية مبعثرة، إلى درجة تجعل المفاهيم الكلاسيكية لا تنطبق عليها.
المؤسف في هذه المرحلة هو توافر الظروف التي تساعد في تقديم جيل جديد من القيادات الفلسطينية ، فالدول العربية لم تعد معنية بوجود تمثيل خاص داخل الحراك الفلسطيني ، ولا يمكن أشخاص مثل صبري البنا أن يبيعوا حقوق الامتياز (الفرنشايز) لأي طرف لعدم وجود الطرف المهتم بتوظيف الفلسطينيين لانتفاء المشروع القومي أو الإقليمي الواسع لأي دولة عربية ، فجميع الدول العربية مستغرقة في مشروعات محلية لتعويض اختلالات الشرعية التي أنتجها الربيع العربي.
كما أن الفلسطينيين بوصفهم كتلة بشرية أصبحوا أكثر قابلية للتعامل مع التحديات الواقعية خارج سطوة الهندسة الإعلامية التعبوية التحشيدية التي صدرت مشكلات المجتمعات العربية لغائب القضية الفلسطينية التي حملت لسنوات بوصفها المبرر الجاهز للتقصير في متطلبات التحديث للدولة والمجتمع في المنطقة العربية.
كل ذلك، والإجابة.. فش فعلاً فش!
فوتت السلطة، ومحمود عباس بصورة مخصصة، وبالتحديد كشخص ومنصب، الفرصة بعد الأخرى لتمهيد الطريق لجيل جديد من القيادات الفلسطينية، وكان التذرع بالظروف مدعاة للتأجيل والتسويف والتفويت، وبقيت تقبع في مكانها لا تستطيع التراجع، وليس بوسعها أن تتقدم إلى أي مكان، داخل فلسطين، أو خارجها.
فش فعلاً… فش! أو على الأقل (فش) في المدى المنظور!
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.