إقرأ أيضاً
في العقود الثلاث الفائتة، شهدت السينما الفلسطينية تطوراً لافتاً يمكن وصفه بالنهضة السينمائية التي أوصلت صوت فلسطين السينمائي ليس إلى المحلية أو العربية فقط بل إلى المحافل السينمائية العالمية، أضف أنها سينما تحت الاحتلال ورغم ذلك نافست بجدارة سينمات عريقة إقليمية مثل السينما المصرية والسورية واللبنانية، وتجاوزتها حتى على الصعيد الفني في بعض الأوقات، الأمر الذي رفع من منسوب الثقة في الفيلم الفلسطيني شكلا ومضموناً.
في الوضع الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 75 عاماُ، لا يمكن لسينماها أن تطرح محتوى خارج إطار قضيتها المركزية بوصفها قضية التزام مصيري وأخلاقي ووجودي. وعليه، فإن غالبية الأفلام الفلسطينية المنتجة، وإن نوعت بين القضايا الاجتماعية أو النضالية، إلا أنها احتفظت في خلفيتها على الدوام بالبعد السياسي والانحياز الكامل لشعبها، الأمر الذي يمكن وصفه بأنها شكلت على الدوام شكل من أشكال المقاومة السلمية المشروعة عبر الثقافة والابداع.
اليوم، ومع استمرار الحرب على غزة إثر تداعيات عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر المنصرم، تستحضر السينما الفلسطينية برمزيتها المؤثرة مع أهمية التركيز على القضايا التي طرحتها في السنوات الأخيرة في سبيل إبقاء الضوء مسلطاً على معاناة الفلسطينيين ونضالهم لأجل التحرر. ومن بين هذه الأفلام التي أبدعتها فلسطين في السنوات الأخيرة ومازال صداه حتى اليوم فيلم (غزة مونامور) 2020 من تأليف وإخراج الأخوين ناصر، وبطولة هيام عباس وسليم ضو القادم من المسرح في أول بطولة سينمائية مطلقة له.
يستوحي الفيلم قصة حقيقية للصياد الفلسطيني جودت أبو غراب الذي عثر عام 2013 قبالة سواحل دير البلح بقطاع غزة على تمثال أبولو إله الحب والجمال لدى الاغريق والذي يعود تاريخه للقرن الخامس قبل الميلاد قبل أن تصادره السلطات الأمنية الفلسطينية. وفي تناص للحكاية ذاتها، سيعثر الصياد عيسى الناصر (سليم ضو) على التمثال ويحتفظ به في خزانته بعد أن يسقط منه على الأرض ويفقد التمثال قطعة منه هي العضو التناسلي، الذي سيكون مفتاحاً رمزياً لمشاكل عيسى اللاحقة بعد أن يحاول تقييم قيمة التمثال ومعرفة تاريخه.
في إطار كوميدي شديد اللطف والإنسانية والابتعاد عن التكلف، تدور الأحداث في ثلاث محاور رئيسة أولها محاولات عيسى الأعزب ابن الستين عاماً استمالة ولفت انتباه محبوبته الأرملة سهام التي تعمل في أحد محلات تصليح الملابس النسائية. ومحاولات شقيقته تزويجه بإحدى النساء من كبيرات السن، وتقوم بإحضارهن برغبتهن الكاملة لمنزله للاختيار من بينهن، في خطوة بدت متقدمة اجتماعياً وشديدة الواقعية تؤكد على أهمية المبادرة للارتباط من قبل النساء بأنفسهن دون حرج اجتماعي، في ظل مجتمع يعاني من نقص مستمر في الذكور بسبب الهجرة أو الاستشهاد.
فيما المحور الثالث المرتبط جوهرياً بما تقدم، وهو عثوره على التمثال والمشاكل التي ألحقها به مع رئيس مركز شرطة مخيم الشاطئ في غزة، والذي سيتعامل مع عيسى وكأنه أحد أصحاب السوابق، ليس لجريمة ما ارتكبها سابقاً ، بل لشكوك حوله تتعلق بالتقاطه قبل أيام يقف في أحد الأيام الماطرة مع محبوبته عند موقف الحافلة ويضع العطر الفواح، وعليه سيبدو مشكوكاً بأمره ويتهم بحيازة الآثار إلى أن يوقع على تعهد يستغني فيه عن التمثال مقابل حفنة من الشيكل(العملة الإسرائيلية) المتداولة في غزة، كرمز إضافي للاحتلال وانتفاء السيادة الفلسطينية.
يستعرض الجو العام للفيلم معاناة العيش التي يعيشها أهالي غزة من شح في الكهرباء والمواصلات وسبل العيش وتوق العنصر الشاب للهجرة بعيداً عن كل هذه المنغصات، إضافة إلى شح عام في الحريات الاجتماعية تحت عين رقيب محلي وعين رقيب إسرائيلي دائمي الحضور والجاهزية. دون أن يفوّت النص اللماح تمرير مشاهد وحوارات تعبر عن تقييد الحرية الخاص بالمرأة الفلسطينية، وبخاصة انعكاس الأعراف الاجتماعية على الأرملة والمطلقة يشكل خاص.
رغم ما تقدم، سينتصر الفيلم للحب بأبهى صوره، فهنا يحضر الحب بين رجل وامرأة كبيرين في السن، يقاوما بكثير من الصبر والتحمل والأمل ضغوط حياتيهما، يفتحان قلبيهما للحياة، ويؤكدان معاً أن الحب وحده القادر على منح قوة وأسباب الاستمرارية في ظل مناخ عام الجميع فيه محاصر بشروطه وأسبابه. لتبقى رمزية استحضار تمثال أبولو كمرتكز رئيس تدور حوله الأحداث، رمزية عميقة بوصف الإله أبولو بحسب الاغريق” إلها للشمس والشعر والموسيقى والرسم والنبوءة والوباء والشفاء والعناية بالحيوان وإله التألق والحراثة ويمتلك جمالا ورجولة خالدة”. وبوصفها رمزية تخدم رسالة الفيلم وتماهت معها شخصية الصياد عيسى ومنحت القصة بعدها الجمالي لأجل انتصار الحياة بقوة الحب. الفيلم الذي مثّل بلاده في مهرجانات دولية كبرى عام 2020 مثل فينيسيا وتورنتو وأنطاليا، وكان مرشح فلسطين الرسمي للمنافسة في جائزة الأوسكار، سيبقى محطة مشرقة من تاريخ السينما الفلسطينية، مبهج وهام باستعادته، وموجع بالوقت ذاته، وأنت تتوقع أن الأماكن التي تم تصوير الفيلم فيها كشاهد على الحياة في قطاع غزة في مرحلة ما، ربما قد تمت تسويتها في الأرض إثر القصف الاسرائيلي عليها اليوم، أو ستتم تسويتها في القريب العاجل.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.