إقرأ أيضاً
لم يخفف الثناء الدبلوماسي واللغة المحملة بالكياسة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيال ضيفه الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء مشاركته هذا الأسبوع في استذكار ضحايا إنزال نورماندي في الحرب العالمية الثانية، من حقيقة المشاعر السياسية الفرنسية حيال الأنا الأمريكية المتضخمة.
قال ماكرون لبايدن أمام الصحافيين “أشكرك سيدي الرئيس، لكونك رئيس القوة الأولى في العالم، ولكنّك تفعل ذلك بإخلاص شريك يحب الأوروبيين ويحترمهم”.
هذا الكلام وإن لم يخرج عن البروتوكول الدبلوماسي السائد إزاء الضيوف، فأنه نوع من الأكاذيب المكشوفة على الملأ، فماكرون هو أكثر زعيم فرنسي يرى أن خضوع أوروبا إلى الولايات المتحدة يجب أن ينتهي بعد أن أوصلت الحرب الروسية الأوكرانية أوروبا إلى نهاية مقامرة الخضوع المحفوفة بالمخاطر.
يمكن أن نكتشف ذلك أيضا في الخلافات داخل “الناتو” وعدم الاتفاق على طريقة الوقوف بوجه روسيا، ووجهات النظر الحادة بين بروكسل وواشنطن بشأن حرب الإبادة المستمرة في غزة.
لقد وجد بايدن نفسه يقف وحيدا بين الديمقراطيات الغربية، بينما إدارته لا تزال تدعم “إسرائيل” بقوة، فأوروبا التي ترى أن ثمن هذه الحرب تجاوز حدود الإبادة بعد أن وصل ضحاياها من المدنيين أكثر من 36 ألف فلسطيني، بينما تتحدث إدارة بايدن بصفاقة لا تبالي بالدماء بذريعة أنها لا تعرف عد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين!
مع أننا لا يمكن أن نقول إن أوروبا دافعت بشكل مخلص عن القيم التي تتذرع بها، عندما يتعلق الأمر بمذبحة المدنيين في غزة، لكنها في كل الأحوال تمتلك موقفا مختلفا بوضوح عن الموقف الأمريكي، يمكن أن نجد ذلك في دعمها لقرار محكمة العدل الدولية وتزامن ذلك مع اعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بالدولة الفلسطينية.
تحدث الرئيس الأمريكي في نورماندي قائلا “أرفض تصديق أن عظمة أمريكا هي أمر من الماضي” لكنه أقر أيضا في رسالة إلى أوروبا لرفع درجة ضغينتها السياسية على روسيا بأن “الديموقراطية الأمريكية تتطلب (…) أن نؤمن بأننا جزء من شيء أكبر من أنفسنا. لذلك فإن الديموقراطية تبدأ مع كل منا”.
وقال بايدن “بوتين لن يتوقف عند اوكرانيا (…) اوروبا برمتها مهددة ولن ندع ذلك يحصل. الولايات المتحدة تقف بقوة الى جانب اوكرانيا. اكرر اننا لن نتراجع”.
كان هذا الكلام بمثابة نوع من الرد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما قال إن العديد من الأوروبيين يريدون العودة إلى “القيم التقليدية” وتقديم روسيا كمعقل لهذه القيم. مشككا في حماية المظلة النووية الأمريكية لحلفائها الأوروبيين.
لكن كلام بايدن لم يخفف الشكوك المتصاعدة بين النخب السياسية الأوروبية بشأن دفاع واشنطن عن الديمقراطية. فهي بالأساس أقرت بأنها تعيش في ديمقراطية مريضة، وأن دونالد ترامب يزيد من عيائها.
ماذا لو فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية، فعن أي مرض ديمقراطي ستتحدث الولايات المتحدة بعدها؟
مع ذلك، دع عنك المشاهد التلفزيونية المنقولة من أجواء النورماندي، وإن كانت أقل وضوحا عن تلك العزلة السياسية خلف أحاديث الأبواب المغلقة، يمكن أن نجد ذلك في كلام بايدن نفسه في الخطاب الموازي لكلام الرئيس الفرنسي، فبايدن يتحدث عن طبيعة “الأسود هو الأبيض” عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية، وفق بيتر بينارت، أستاذ الصحافة والسياسة في جامعة نيويورك والمحلل المخضرم لشؤون الشرق الأوسط بقوله “غزة تقوض الوضوح الأخلاقي للحجة التي تريد الولايات المتحدة تقديمها بشأن أوكرانيا”.
فحرب غزة تجعل قصة السارد الأمريكي لحرب أوكرانيا أقل إقناعا لكثير من الناس.
كان الأوروبيون، مع بعض الاستثناءات البارزة، متحالفين بقوة مع واشنطن لأكثر من عامين في الحملة المتعددة الجنسيات لهزيمة روسيا بعد حربها على أوكرانيا، ويتطابقون على نطاق واسع بشأن طبيعة الاستثمار السياسي الأمريكي لحرب أوكرانيا، مع التزاماتهم تجاه كييف. لكن تزايدت انتقادات الأوروبيين لغطرسة نتنياهو في استمرار الحرب في غزة على مدى الأشهر الماضية، حتى مع رفض إدارة بايدن الجهود التي بذلها المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية للحصول على أوامر اعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب.
تقول ليزلي فينجاموري الخبيرة في معهد “تشاتام هاوس” للأبحاث في لندن إنّ “الطريقة التي يُنظر بها إلى كلّ هذا في بقية العالم هي أنّ الولايات المتّحدة تهتمّ بالإسرائيليين والأوكرانيين، وتعير اهتماما أقلّ للشعوب غير الغربية”.
بعد فوزه في انتخابات 2020، سافر بايدن كثيرا حول العالم مرددا أن “أمريكا قد عادت”، لكن العديد من القادة الأجانب يشعرون بالقلق من أن ولايته لم تشهد عودة اليقين في القيادة الأمريكية.
وحاليا، يتوقع كثيرون في أوروبا عودة ترامب الذي تقوم سياساته على مزيج من الانعزالية والشعبوية، وهو المزيج الذي لم يأت من فراغ وإنما جرى استخلاصه من سنوات من الإخفاقات العسكرية الأمريكية في الخارج بأماكن مثل العراق وأفغانستان.
بعبارة أخرى، كان هناك شعور متزايد بين الأمريكيين بأنهم سئموا دورهم العالمي وهو ما أثار مناقشات طال انتظارها في بعض العواصم الأوروبية حول بذل المزيد من الجهد لضمان أمن القارة العجوز. وحتى لو فاز بايدن في الانتخابات الرئاسية، فإن الأمريكيين والأوروبيين لن يترددوا على طرح أسئلة صعبة حول الموثوقية الأمريكية. وعندها لن يجد بايدن أن تكرار نظرته على أن “الأسود هو الأبيض” في إجابات مقترحة كما يحدث اليوم لن تكون مفيدة بأي معايير سياسية تضعها إدارته.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.