إقرأ أيضاً
في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” نظَّر شيمون بيرس لحقبة جديدة في المنطقة تكون فيها إسرائيل دولة مركزية بحكم تفوقها التقني وتطورها المدني في مقابل ضعف الدول العربية، وتصور بأن توقيع مذكرة سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية ستفتح له الباب للوصول إلى باقي الدول العربية.
وحقا كان يمكن أن يتحقق مراده لو أن إسرائيل أخلصت في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وعمل اليسار الإسرائيلي الأقل تشددا على كبح جماح اليمين واليمين الإسرائيلي الأكثر تشددا الذين أشار إليهم بوضوح في كتابه، ولأمكن تحقيق السلام العادل وإقامة حل الدولتين وفق طرح المبادرة العربية، وهو ما كان سينهي حالة الصراع الوجداني تزامنا مع انتهاء حالة الصراع السياسي.
لكن الغرور الإسرائيلي منع ذلك، حيث تصوروا بفهم سقيم للواقع العربي بأن العرب أمة مجزأة، وذلك حين وقَّعت مصر بشكل منفرد معاهدة سلام، ثم توقيعهم مع منظمة التحرير الفلسطينية لاتفاق أوسلو، ومن بعدها اتفاقهم مع الأردن، وصولا إلى توقيعهم لاتفاق سلام مع مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة مؤخرا، وكل ذلك بشكل منفرد، وهو ما كرس في ذهنهم بأن قضية فلسطين لم تعد مركزية في ذهن العرب، وأن ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي نظَّر لها بيرس آخذة في التشكل وبشكل سريع.
كان ذلك تصور اليمين الإسرائيلي وإيمانهم المطلق، وهو تصور تشكل في الذهن السياسي الغربي، كما قادته الحكومة الأمريكية بجهل منها لكوامن البنية النفسية للعرب والمسلمين إجمالا. ولا أكون مبالغا إن قلت بأن الذهن السياسي السعودي هو من استمر مدركا لمركزية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والإسلامي، ولذلك جعل منها محورا رئيسا في المفاوضات غير الرسمية التي جرت مع الإدارة الأمريكية قبل أن يتفجر بركان طوفان الأقصى.
إنه بركان طوفان الأقصى الذي غير موازين المعادلة جراء غرور اليمين الإسرائيلي، وعدم إدراك السياسي الأمريكي والغربي إجمالا، إذ كان يمكن أن يخمد البركان بشكل سريع مع محدودية انتقام إسرائيل لخيبتهم في السابع من أكتوبر، ليتسنى لها مراجعة نقاط ضعفها قبل أن يأخذها غرورها لترتكب أبشع الجرائم الإنسانية بمرأى ومسمع من كل العالم، ثقة منها بألا أحد يستطيع أن يوقف بطشها، ويحاسبها على توحشها وإجرامها، لاسيما وقد حضي قادتها بمباركة القيادات السياسية والعسكرية الغربية في الساعات الأولى، والذين هبوا لنجدتهم قولا وفعلا.
هذا الغرور والتوحش تحول إلى نقمة عليهم، فالدماء البريئة تطايرت في السماء لتنبئ الشعوب الغربية بحقيقة ما يُرتكب في غزة من مجازر بشرية بحجة الانتقام والدفاع عن إسرائيل، فكان أن خرجت الشعوب الأوربية والأمريكية منددة بالجرائم المتوحشة التي ترتكبها إسرائيل في حق شعب أعزل، وهو تفاعل لم يكن له وجود من قبل على الصعيد الشعبي الغربي، ولعمري فتلك أولى نتائج الشرق الأوسط الجديد ولكن ليس وفق رؤية بيرس، وإنما وفق رؤية الطفل والمرأة والشيخ العجوز والمقاوم في غزة.
لقد رسمت أحداث طوفان الأقصى ملامح شرق أوسط جديد، ولكن بنكهة عربية وليس إسرائيلية، حيث تمدد مفهوم “دول الطوق” والذي كان قاصرا على الدول المحاددة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لكنها اليوم تمتد إلى أبعد من ذلك، ليصبح اليمن والعراق أحد دول الطوق الرسمية باشتراكهما في الدفاع عن غزة، وضغطهما عسكريا لوقف إطلاق النار.
كما أخرج طوفان الأقصى حالة الصراع من جانبه السياسي وما يستتبع ذلك من حوارات وتعاملات اقتصادية، إلى نطاقه المجتمعي الذي بات غاضبا من كل التوحش الصهيوني الذي أدى إلى مقتل أكثر من 22 ألف طفل وطفلة، شيخ وشيخة، امرأة ورجل أعزل، وكلهم لا حول لهم ولا قوة، ناهيك عن تشريد مئات الألوف في العراء تحت المطر، وفي ظل أجواء الشتاء القارسة، ودون أي طعام، بل ودون أي غطاء صحي يقيهم من شر المرض ويداوي جرحاهم، إذ حتى المستشفيات لم تسلم من قصف الكيان الإسرائيلي، وهذا كله بمنأى عن عدد الجثث التي لم يتم حصرها تحت الأنقاض، وهي حتما بالآلاف.
إذاً نحن أمام حالة جديدة من الصراع أخذت تتشكل بعيدا عن هُويات الدول الرسمية، وهي حالة يمكن أن تتطور لتدخل المنطقة بأكملها في حرب إقليمية موسعة، تصل إلى اندلاع حرب كونية مستقبلا، أو يتم التعامل معها بحكمة وعقل، ويتم احتواءها بشكل عملي عادل، وبالتالي وقف تفلتها مستقبلا.
لقد أيقظ الدم المسكوب ظلما في فلسطين النفوس الغربية قبل العربية، وجعل المقاومة المسلحة مقبولة في الأفق العربي، فالمسيرات والصواريخ اليمنية باتت تمثل موطن فخر واعتزاز من قبل كل عربي ومسلم، حتى لو لم تصل إلى إسرائيل؛ والتحالف الذي أرادته أمريكا لمواجهة أنصار الله في اليمن تفلت في ابتداء تكوينه، ولم يجد أي ترحيب عربي ودولي كبير، لأنه تحالف يستهدف حماية ودعم إسرائيل، التي أوغلت في توحشها حتى لم تعد الشعوب الغربية تقبل ذلك.
هذا كله ينبئ عن تطور يمكن أن تكون له عواقبه إن لم تتدارك القيادات السياسية الأمر، وتفرض على دولة إسرائيل التوقف الفوري، وتلزمها بالرضوخ للقوانين الدولية، وإلا فنحن أمام مشهد مماثل لفشل عصبة الأمم المتحدة قبل الحرب العالية الثانية، والتي أدت إلى اندلاع تلك الحرب المدمرة، غير أن الثالثة ستكون أكثر دمارا، وسينتج عنها تغيير في الخارطة السياسية قطعا، وأول الخاسرين هي دولة إسرائيل التي ستزول من الخارطة بشكل كلي. إنه شرق أوسط جديد يتشكل في ظل مجازر طوفان الأقصى، أوقف مشروع الممر الهندي، ويعيد العلاقة مع دولة إسرائيل إلى نقطة الصفر، وهي النقطة الأولى التي حدثت فيها النكبة الأولى عام 1948م والتي تشكلت فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعقد التعامل مع إسرائيل أكثر من أي وقت مضى، في ظل الغضب الشعبي العربي (مسلما ومسيحيا) وغضب الشعوب الإسلامية والغربية.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.