إقرأ أيضاً
كنا في اوج مراهقتنا وعنفواننا الحزبي، عندما نشر نزار قباني قصيدته بلقيس، التي يرثي فيها حبيبته وزوجته، كان مكتب تكسي النادي اول مخيم حنيكين ” النصر”، مكانا للاجتماع الصباحي، حيث العم المرحوم ابو محمد النادي والد صديق الدراسة نايف، وبجانبه مطعم العم ابو غازي رحمه الله، والد الصديق محمود، وبين العم ابو محمد والعم ابو غازي فوارق لا يتسع مقال لحصرها، كنت اتحدث بهوس عن القصيدة، عندما اثار طاعن في التجربة والعُمر، سؤالا اظنه الاعمق الذي سمعته حتى الآن، قال لي واصفا القصيدة بالتافهة حينها، عندما ماتت بلقيسنا لم يكتب، وعندما ماتت بلقيسه كتب، فلماذا انت منفعل ومتحمس؟.
كان الكهل مقاتلا في صفوف الثورة قبل ان يستقر به المقام في المخيم، حزينا على عمر قضاه في المنافي وسجن الجفر، اظنه كان شيوعيا، وكان مع قوات انصار، التي حلها الحزب الشيوعي، في اتون ايلول وللمصادفة اعلنت جماعة الاخوان المسلمين حل فصيلها العسكري في نفس العام وربما في نفس التوقيت، زلفت قليلا، واعود الى عمق السؤال وفلسفته، هل نحن اسرى بلقيسنا الجمعية، التي تتبدى اليوم عروسا تُستباح على شاطئ المتوسط، اسمها غزة، وشكلها غزة، فلا يوجد وصف يضاهي اليوم غزة، فهي الاصل ولا يجوز التشبيه الا بها ولها، وكل وصف دونها قاصر وكل اقتراب منها اليوم ساتر.
استذكر القصة والاستهلال، بعد حوار مع ضيف امريكي جمعني به عشاء عند صديق، عندما قال اننا لم نتشارك مع العالم في الهم الانساني، عندما كانت داعش الإرهابية تضرب شمالا وجنوبا، ويقصد مجتمع ضفتي النهر، وقدم دلائله على شكل نتائج استطلاعات رأي، افادت بأن 62% من الاردنيين كانوا يؤيدون ابي مصعب الزرقاوي حتى 9/11، اي قبيل تفجيرات عمان، و75% نسبة تأييد اسامة بن لادن، فكيف تطلبون العالم ان يستجيب لمأساة غزة التي تتحدثون عنها، وانتم اول الانكار للإرهاب، قبل ان يطال عاصمتكم؟وقال بما يشبه ان السابع من اكتوبر قريب بأقرب كسر عشري الى 11سبتمبر2001، او هكذا جرى تقديمه في اول الايام، قبل ان تنسف الة القتل الصهويني هذه الرواية ولم تنسفوها انتم.
اخذتني شخصيا الصعقة، لدقيقة واكثر من المقاربة الذكية التي القاها الضيف، سرحت فيها، بهتافات المتظاهرين في عمان، ابن لادن يا حبيب اضرب اضرب تل ابيب. واصلاً الى المدينة المنورة، وبداية رحلة الحج برفقة الصديق رمضان الرواشدة، حين اشترينا من السوق ملابس افغانية، وبتنا نتجول بها في الاسواق، تحت اسمين مبتكرين ومتلائمين مع اللباس، ابي أوس الشوبكي، وابي مؤاب الغزاوي. وتماهينا مع الحالة، وكم فاجأنا حجم التعاطف الشعبي في المدينة المنورة معنا، وتبدى ذلك في الخصم الذي كان يُمنح لنا، واسئلة السائقين والباعة، عن الضغوط التي نتعرض لها من الانظمة والاجهزة، وعن معاناتنا معهما، وقد استفدنا من خبرتنا اليسارية في التعامل مع الناس كثيرا، واذكر اننا رددنا على سبيل الدعابة شعار ابن لادن، ويومها ابتعد عنا الناس في الشارع، لكن نظروا الينا باعجاب وتعاطف.
التقط الحديث، وقلت له ربما لم ننجح في الامتحان الانساني في تلك الفترة كمجتمع، ولكن هذه نتيجة يا ضيفنا وليست سببا، فالغرب الانساني المتحضر كما تصفه، كان معادي لكل احلامنا الوطنية والديمقراطية وليس القومية فقط، فقد دعمتم كحكومات، كل اشكال الرجعية واليمينية في بلادنا، ولم تقفوا موقفا انسانيا امام حالات الاعتقال والتخلي عن الديمقراطية والتنمية البشرية، وكانت تقارير سفاراتكم معنية فقط بحجم مواجهة الشيوعية في بلادنا، واقفلتم عقولكم واعينكم عن دونها، بل ودعمتم انتم لا غيركم المجاهدين العرب في افغانستان، بل يسرتم لهم كل الادوات الممكنة من تبرعات وسلاح، ولعلي اذكرك بأن هوليود انضمت الى الجوقة، وقدمت فيلما من بطولة سلفستر ستالوني في سلسلة روكي عن وصول صواريخ ستنغر الى المجاهدين، اي انكم جزء اصيل من تزييف الوعي.
واليوم تأتون وتبيعوننا بضاعتكم، وكأنها بضاعتنا، ايضا على الجانب الآخر، هل قرأتم لبرهة قصيرة، مواقف الجانب الآخر، هل كان الصهاينة اقل وحشية من داعش، من مرحلة تكسير العظام الى القصف الهمجي على غزة التي وصلت الى مرحلة الابادة، هل قرأتم ولو من باب الاسئلة الاختيارية او الافتراضية، كيف عندما انشغلت الحركة الصهيونية بالحرب على غزة، غابت كل الفيروسات والحروب الاخرى، وغابت كل الاشاعات الاقتصادية والفكرية وحتى الاثنية والطائفية؟ وحتى داعش التي تغيب وتحضر غب الطلب لم نسمع لها صوتا او حضورا، بل لم تصل الى تل ابيب رغم انها وصلت الى واشنطن ولندن ومدريد، ولا اريد ان اقول وصلت الى عمان والرياض والقاهرة.
ودعني اقول لك امرا اخيرا، لا نعتقد ولا نصدق ان ثمة مدنيين في المجتمع الصهيوني، بل انني كتبت مقالا ذات مرة، ادين فيه اغتيال الكهل فولي، احد موظفي منظمة امريكية، وانا اليوم اراجع موقفي، فكهولكم ليسوا اكثر وقارا من كهولنا، ونسائكم لسن اكثر قيمة من نسائنا، واطفالكم ليسوا اكثر براءة من اطفالنا، فلتعد فترة القلق الى العالم كي يشعر بقلقنا، نعم انا مع كل اشكال المقاومة في فلسطين وخارجها، فكلكم اثبتم انكم صهاينة، وانكم تعيشون على جراحنا وتعتاشون من دمنا قبل نفطنا ومواردنا، صحيح انه لو غاب العرب عن العالم او استيقظ العالم بدون العرب، لن يفقد العالم تقنية او اختراعا، لكننا نرى انفسنا قيمة عليا، اضعفتموها بدعمكم كل اشكال الرجعية والتبعية.
طبعا قلت له قصة بلقيسنا وبلقيسهم، لم يغضب الضيف، كأي مسؤول عربي، بل ابتسم وقال لي بكل برود العالم، لماذا قبلتم، أنتم وانظمتكم؟ فسكت عن الكلام المباح.
Omarkallab@yahoo.com
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.