إقرأ أيضاً
لا يتردد السياسي الأوروبي – الإسباني جوزيب بوريل عن عرض امتعاضه ولو بمسحة خفيفة حين يقول في مدونته صباح يوم ٢٣ أكتوبر والمنشورة على صفحات موقع الاتحاد الأوروبي أنه لم يحظ بالراحة التي كان ينشدها يوم السابع من أكتوبر الماضي وقد عاد لتوه من أوكرانيا ليجد أمامه أخبار “الهجوم الإرهابي” من حماس على إسرائيل.
الاشتراكي في خلفيته الحزبية الإسبانية ووزير خارجيتها سابقاً هو اليوم وزير خارجية منظومة الاتحاد الأوروبي فعليا من خلال منصبه مفوضا ساميا للشؤون الخارجية في الاتحاد.
في مدونته تلك، يحاول بوريل عرض مرافعة دفاعية عن موقف الاتحاد الأوروبي أمام اتهامات “ازدواجية المعايير” في الحرب الأخيرة في غزة، ومع تأكيده أن ما حدث في السابع من أكتوبر يمنح لإسرائيل حق الدفاع عن النفس ويؤكد ذلك بلهجة قوية إلا أنه بلهجة أقل حدة يقوم بالتذكير بقواعد القانون الدولي التي يجب أن لا يتم تجاوزها منوها أن حماس لا تمثل الفلسطينيين.
يحاول بوريل في مرافعته الدفاعية أن ينأى عن نفسه وعن الاتحاد تهمة ازدواجية المعايير مركزا على ضرورة الدعم الإنساني لأهالي القطاع، بدون أي إشارة شديدة اللهجة تتعلق بوقف القصف الوحشي أو أي إشارة إلى خطط “التهجير” المعلنة لدى إسرائيل.
بصراحة كنت أقرأ بوريل وفي ذهني طوال قراءتي لمرافعته تلك ذلك الشاب الذي كان هو نفسه في عام ١٩٦٩ متطوعا في أحد كيبوتسات إسرائيل ( كيبوتس غال أون)، وأثر ذلك في تشكيل وعي وزير خارجية أوروبا لكل معطيات الصراع العربي – الإسرائيلي من زاوية شاب قروي من كتالونيا “المطالبة بالاستقلال عن إسبانيا” ابن القرية الذي عانى في تعليمه المدرسي وحظي بمنح دراسية وافرة فيما بعد كان أهمها منحة فولبرايت الشهيرة ليصبح ما أصبح عليه اليوم.
تلك قراءة مهمة “عندي على الأقل” لمحاولة فهم كيف يفكر مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي خصوصا في مسألة “ازدواجية المعايير” التي أجهد نفسه في النأي عنها.
على أرض الواقع، وبعيدا عن أروقة الاتحاد الأوروبي في حي شومان الهاديء في مدينة بروكسل الضاجة بالتناقضات أصلا، هنالك تصريحات واضحة ومعلنة تكشف قساوة ما تفكر به تل أبيب نحو قطاع غزة، وربما ينسحب ذلك التفكير فيما بعد وفي مرحلة مباشرة على الضفة الغربية، وهذا التفكير هو “حد الهاوية” الذي يرى بوريل في مدونته أنه المكان الأكثر حرجا وملاءمة لاجتراح الحلول فورا!
شخص مثل ديفيد بترايوس مثلا، وهو الجنرال الأمريكي الذي خدم في ميدان حرب العراق وعمل مديرا لوكالة المخابرات الأمريكية يلخص تصورات إسرائيل في مواجهتها للواقع في غزة أنه قد تقع في “سيناريو مقديشو”. ربما الرجل محق لكن مع ثورة الغضب العمياء الممزوجة بالتطرف في إسرائيل فإن لا أحد مستعد أن ينتبه للتحذير.
على مستوى القادة العرب، فإن أكثرهم درايةً بالنسيج الدبلوماسي في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بحكم علاقاته والخبرة التي اكتسبها في فهم العقل الغربي هو الملك الأردني عبدالله الثاني، والذي ورث عن والده مبدأ الوسطية في كل شيء والاعتدال في العلاقات السياسية بالإضافة إلى إرث سياسي في إقليم مضطرب واستطاع خلال عقدين من الزمن أن يرسخ نفسه كواحد من أكثر العقلانيين العرب الداعين للسلام والاعتدال في العلاقات الدولية وفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
الملك الأردني نفسه الذي كان حاضرا في المحافل الدولية بلغة خطاب واضحة تنبذ العنف، وأحد المتقدمين في مظاهرات باريس قبل سنوات بعد حادث الجريمة الإرهابية التي تعرضت لها مجلة شارلي إيبدو، وصاحب الخطاب الأكثر قوة أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ وفيه تحدث عن ضرورة الحل السلمي الواقعي متنبئا بكوارث المماطلة والتسويف في حل الدولتين هو نفسه الذي تحدث بخطاب شديد اللهجة وباللغة الإنجليزية في قمة القاهرة قبل أيام مخاطبا العالم بضرورة وقف القصف الوحشي على غزة، مكررا وصف ما يحدث من قبل إسرائيل بجرائم حرب طارحا موضوع المساءلة القانونية، ومحذرا بشدة أكبر من تفكير اليمين الإسرائيلي بسيناريو التهجير الذي يتبعه بالضرورة “والخبرة التاريخية” سيناريو التوطين.
الإسرائيليون يتحدثون بصراحة، ومن يتحدث ليس محللون ولا كتاب أو سياسيين متقاعدين خارج السلطة، بل التصريحات صادرة عن مسؤولين لديهم السلطة وصناعة القرار.
غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي يقول بصراحة أن إسرائيل سوف تنهي “مسؤوليتها عن الحياة” في قطاع غزة.
هذه عبارة ملطفة للإبادة، وإلا ماذا يعني إنهاء المسؤولية عن الحياة في قطاع مغلق ومحاصر ويتعرض للقصف وكل إمدادات الحياة فيه مرتهنة بالقرار الإسرائيلي؟
هذا يشبه قرارا بقطع أنبوب الأوكسجين عن مريض ملقى على السرير ويتعرض للخنق بالوسادة فقط لأن الخصم يختبئ تحت السرير.
لكن، وزيرا آخر في حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية هو جدعون ساعر يصرح بما يكشف أكثر عن تصور إسرائيل لغزة بعد التهجير فيقول أن غزة لا بد أن تصبح أصغر حجما بعد الحرب. ويضيف في تهديد يتجاوز غزة وربما هي برقية إلى باقي الإقليم فيقول أن من يبدأ حربا ضد إسرائيل عليه أن يخسر الأرض.
في المحصلة، وعودا على بدء..
ربما على جوزيب بوريل أن يقرأ تلك التصريحات بعناية أكثر، ليعرف أكثر، فهو مسؤول في النهاية عن مصالح أوروبا واتحادها الذي قام على أسس اقتصادية، مما يدعوه إلى التفكير بروية حول مصلحة الاتحاد الذي يمثله في كل ما سيحدث من حسابات بعد تلك الحرب اللعينة.
وما ذكرته عينات تعثرت بها وبسهولة في فيض كبير من التصريحات التي توحي بحرب “إقصاء وتهجير” لا إنسانية يفكرون فيها في تل أبيب.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.