إقرأ أيضاً
هناك مستنقع سياسي آسن لا تنتهي حدوده في المنطقة الخضراء، نما وتوسع منذ عام 2003 في العراق، لكنه يبدو اليوم مغلفًا بقشرة سياسية زائفة وهشة، من دون أن تمنع نفاد الرائحة الفاسدة منه، فثمة من يتقاتل في داخل ذلك المستنقع بذرائع سياسية وديمقراطية (…)، لكن أولئك المتصارعين في الوحل السياسي والأخلاقي يعملون معًا لإثراء أنفسهم.
ذلك ما يسميه كبير مراسلي مجلة “إيكونوميست” في الشرق الأوسط نيكولاس بيلهام، بـ”أرض العصابات” في معادل مخز لأرض النهرين وهو يعرض لحفلة السخرية القائمة في البلاد التي أريد لها أن تصبح “واحة الديمقراطية” في المنطقة كما زعم جورج بوش الابن!
من البساطة بمكان استعادة التسويف الأمريكي عندما يتعلق الأمر بالعراق، لتتعرى صورة بوش في عملية تسويف سبقت احتلال العراق عام 2003 بيد أنها انتهت بعد أسابيع، عندما تحول التسويف إلى كذب شائن انتهى بتدمير بلد وتحويله إلى كيان فاشل.
يكتب بيلهام متهكمًا عن مسرحية الديمقراطية التي لم تنته بعد مواسم عرضها، فعلى الرغم من أن المشهد العام يبدو على ما يُرام، بوجود هيئة النزاهة العامة ومجلس القضاء الأعلى ولجنة الأخلاقيات البرلمانية والهيئة العامة للانتخابات، فإنه يفتقر إلى المصداقية والموثوقية. وغالبًا ما تُستخدم المؤسسات التي يجب أن تحافظ على المساءلة لزعزعة استقرار الشعب.
بل تجد الطبقة الأوليغارشية الفاسدة والرابضة في المنطقة الخضراء وصولا إلى الأقبية المعتمة في النجف حتى غسيل الأموال القذرة في الأنبار، الكثير مما يسعدها، في الجدل الإعلامي والشعبي بشأن الدستور والقانون ومجلس النواب وانتخابات مجلس المحافظات وحق المكون وما يتوافق مع المدونة المكتوبة لتلك التسميات التي تبدو في مظهرها العام ممثلة لدولة، لكنها في واقع الأمر ليس أكثر من أرض عصابات يتصارع فيها زعماء الأحزاب في الوحل الآسن.
بوسعي أن أقول أكثر ما يسعد تلك الطبقة ذلك النقاش الإعلامي والشعبي المحتدم، والذي يزداد جدلا فارغًا مع كل إقصاء أو محاكمة أو انتخابات صورية، لأن هذا الجدل يضفي شرعية سياسية عليها لا تجدها حتى مع نفسها! لذلك تخرج من المستنقع وتقول “أنظروا ها نحن في العراق بلد ديمقراطي يتسع فيه الجدال والخلاف”!!
يمكن أن نجد ذلك ببساطة مع ما يتصاعد بشأن انتخابات مجالس المحافظات وبديل رئيس مجلس النواب المقصي محمد الحلبوسي. وفي ظاهر الأمر يبدو ممثلا لصورة المشهد، لكن ما تحته من ضغائن وتقاسم الحصص واتفاقات مشينة وإذلال ولصوصية وخيانات وطنية، هو المعبر الحقيقي عما يجري في عراق المنطقة الخضراء.
قد نتعاطف مع من يحملون النية الطيبة، وهم يعولون على الدستور المسخ (لا يمثل إلا من كتبه) عندما يدافعون عن القانون، بينما يعجزون عن إثبات أن ثمة قانونًا سائر في العراق منذ عام 2003، فهؤلاء يأخذهم الأمل الواهن بتغيير العملية السياسية من داخلها، وهو أكثر من وهن عندما ندرك أن عشرين عامًا من الفساد كأنها لا تكفي لنقتنع بأن المنطقة الخضراء لا تنتج حلولا!
مهما يكن من أمر لا يمكن أن نتعاطف مع الذين عاشوا في مستنقع العملية السياسية، وإن كانت نياتهم طيبة ومخلصة، وعند هروبهم أو إقصائهم بدءوا بعرض حقائق اللصوصية التي عاشوا في كنفها. والمكشوفة للعراقيين بالأساس.
تقول سهى النجار، التي عملت في الهيئة الوطنية للاستثمار وفي النهاية قدمت استقالتها وهربت! إن التهديدات أجبرتها على الفرار من العراق. مع أنها تعجز عن الإجابة عن مصدر الثقة التي حصلت عليها وهي تعمل مع لصوص الدولة، وفي هيئة متخمة بالأموال، وما الذي يمنع أن تكون شريكة لتلك الطبقة الأوليغارشية وهي تعمل بينهم وبحمايتهم، كي نتعاطف في النهاية مع استقالتها، وإن كانت يدها نظيفة؟
وتضيف النجار “حياتك ستتعرض للتهديد على أي حال، لذلك عليك أن تكون فاسدًا وتكسب المال، لهذا السبب، الجميع فاسدون”. وتؤكد على أن نوّابًا من الموالين لإيران كانوا يأتون إلى مكتبها ويهددونها علنًا أمام الموظفيّن بالسجن والقتل.
ليست هذه السيدة المثال الوحيد عمن عاش في مستنقع العملية السياسية، وعندما خرج منها أراد أن يدينها من دون إدانة نفسه أولا. وهي تمثل صورة حقيقية معبرة بصدق عما يجري في العملية السياسية في العراق، وتبدد كل أمل أو محاولة إصلاح تلك العملية من داخلها، من دون وصول العراق إلى “المعادلة الصفرية”.
الفشل ليس واقعًا بسبب السياسيين الفاسدين، وفق الصحفي روبيرت وورث الذي كتب أحد أهم التقارير الصحافية عن الفساد في العراق في صحيفة نيويورك تايمز، وإنما أيضا بسبب “الإطار السياسي لهذا البلد”، فالنظام الذي تم وضعه خلال فترة الاحتلال الأمريكي والذي يساهم في تعزيز المنافسة السياسية وتقاسم السلطة والذي تحول إلى عملية توافقية يتم من خلالها تقاسم أموال النفط، عبر الوزارات من جانب لصوص الدولة. فوورث هذا الصحفي الأمريكي البارع، لا يخلي مسؤولية الولايات المتّحدة مما آل إليه العراق من فساد وفشل عظيمين، لأن واشنطن متورطة بشدة في كل هذا، ليس فقط لأن غزوها دمر البلاد، بل لأنها تقدّم الأموال التي يستفيد منها الفاسدون، إذ لا يزال الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يمد العراق بما لا يقل عن مليارات الدولارات سنويًا بالعملة الصعبة من مبيعات النفط. ولا تتردد أيضا في دعم معادلة سياسية جنى العراقيون نتائجها في واقعهم الرث.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.