إقرأ أيضاً
منذ عشرات السنين، مازالت نساء العالم يناضلن لرفع المظلوميات التي وقعت عليهن وتميزهن في المجتمعات. ورغم أنهن حققن بعض المكتسبات الحيوية إلا أن رحلتهن مازالت طويلة، والدرب مازال مزروعاً بالكثير من العوائق الشاقة. وإن كان من البديهي والمشروع والملّح أن تتصدى النساء للدفاع عن جنسهن والسعي نحو المساواة والعدالة، سيكون لهذه المهمة وقع آخر ومضاف حين يتم تبنيها من الجنس الآخر، أي الرجال، ويمكن توصيف هذا الدعم المطلوب، بالصديق.
المخرج الأردني الشاب أمجد الرشيد، واحد من هؤلاء الداعمين الأصدقاء، والذي ترجم دعمه ورؤيته المنصفة لواحدة من قضايا المرأة الشائكة في قوانين الأحوال الشخصية عبر السينما، كواحدة من أهم الأدوات المؤثرة التي يمكنها ليس فقط اختصار عشرات الدراسات والكتب والندوات والمطالبات، بل أيضاً تكثيف الزمن واختصاره ونقل القضية المتبناة وإسماع صوتها إلى العالم أجمع.
“انشا الله ولد” فيلم أمجد الرشيد المنتج من رولا ناصر 2023 وكتب له السيناريو مع دلفين أوغت ورولا ناصر، وتوج بجائزتين في أولى مشاركات الأردن في مهرجان كان بدورته 76 العام الفائت، ورشحته الأردن ليمثلها في مسابقات حفل الأوسكار 96 في شهر آذار/مارس القادم. فيلم يستحق للأردن أن تفخر به، ليس لجودة وتميز المحتوى الذي حمله فقط، بل لاحترافية إنتاجه وصنعته السينمائية التي تضعه في مصاف الفيلم العالمي، وتبشر بالتطور السينمائي الملفت في الصناعة السينمائية الأردنية.
من المتوقع دوماً، أن يثير موضوع شائك كمثل الموضوع الذي يعالجه فيلم “انشا الله ولد” الذي يخاطب الأعراف والتقاليد والقوانين المستمدة من الشرع حساسيات اجتماعية ودينية، ومن المتوقع أيضاً أن تدفع هذه الحساسيات المجتمع لمناهضته. لكن المدهش أن الفيلم لم يحظ بالتقدير والاهتمام من بلده فقط، بل حصل أيضاً على دعم الهيئة الملكية الأردنية للأفلام في دورتي دعم الإنتاج ودعم ما بعد الإنتاج، أضف إلى دعم من قبل حوافز التصوير والاستفادة من الاستثناء الضريبي وبرنامج الحوافز الإنتاجية.
هذا الدعم الإيجابي غير المسبوق يمكن للفيلم أن يفسر أسبابه بذاته. إذ أنه كتب وصيغ برؤية متوازنة ومنصفة، لم يغال في المظلومية التي يطرحها، بل أضاء على القوانين المستمدة من الشرع مع الشخصيات النافذة التي تطبق هذه القوانين باحترام، في محاولة بدت (لبقة) لإظهار الثغرات الكامنة في هذه القوانين، والتي يمكن بسببها أن تقع الكثير من المظلوميات على الجنسين وليس على جنس المرأة فقط. أضف إلى أن رؤية الفيلم شملت المجتمع بتنوعه الطائفي الإسلامي والمسيحي على حد سواء، فأبرزت المثالب القانونية والدينية لكل منهما، دون تمايز واحدها على الأخرى.
القصة هنا عن أرملة شابة(نوال) لعبت دورها باحترافية وجمالية مدهشة (منى حوا)، ستجد نفسها فجأة مع طفلتها نور في مهب الريح “الذكورية”، أي في مواجهة مع قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالإرث التي تقضي بمنح الحقوق الكبرى لذكور أسرة الزوج بسبب عدم وجود طفل(ذكر) للزوج المتوفي. الأمر الذي يعني أحقية إخراجها من المنزل الذي تقطنه مع طفلتها ومصادرة ممتلكات الزوج، رغم أنها مشاركة كإمرأة عاملة مع زوجها في أقساط المنزل والسيارة مناصفة لكنها لاتمتلك الاثباتات والوثائق المطلوبة التي تحفظ حقوقها.
الحل المعجزة أن يكون لهذه الأرملة طفل ذكر يحميها من المجتمع الذكوري، وليس عبر تغيير القوانين. وعند هذا المفصل الهام، تكمن الرؤية اللماحة للفيلم التي أضاءت على قضية القوانين بمواجهة سلسة غير صدامية، تاركة للمجتمع مساحة لإعادة الحسابات والنظر بعدالة في مثل هذه القوانين وإمكانية البدء في تعديلها بما يحفظ حق المرأة والأطفال الاناث من مثل هذه المظلوميات التي يمكن أن تشردهن أو تحرم الأمهات من بناتهن بحجة وصاية أهل الزوج، وتقودهن في المحصلة إلى مصائر شقية.
لا يضيء الفيلم على قصة الأرملة نوال فقط، بل على مجتمع متكامل تطغي فيه الممارسات الذكورية وشرعنتها من الرجال وبعض النساء أيضاً، ابتداء من تحرش الجار المستمر بالأرملة، إلى وصاية شقيق الأرملة عليها وغضبه من تمردها، مروراً بقصة الزوجة المسيحية لورين ومواجهتها للقوانين الكنسية والأسرية في رحلتها للانعتاق من زوجها وإجهاض طفلها، وأيضاً الجارة التي تجرب الهيمنة الدينية على الطفلة نور، انتهاء برمزية الجرذ المذعور والمحاصر في المطبخ كأنموذج للضحية المكروهة,
“انشا الله ولد” قصة فيلم لا تخص المجتمع الأردني فقط، بل يمكن إسقاطها على جميع المجتمعات العربية والإسلامية وأيضاً العالمية التي مازالت الذكورية تهيمن على مفاصلها. وهو ما منحه شمولية الرؤية والبعد الإبداعي المتميز، أضف مرة أخرى إلى احترافية وسلاسة الإنتاج والسيناريو والأسلوبية الاخراجية، التي تدفع المشاهد إلى التعاطف ومناصرة قضية الأرملة عبر حلول عادلة يمكن للقوانين أن تنظر بها مع متغيرات العصر والمجتمعات الحديثة والمنطقية. وإلى حين حدوث مثل هذا التغيير، الدعاء لها أن يتوج حملها الذي اكتشفته في الختام بـالطفل الذكر المنقذ، و”انشا الله ولد”.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.