إقرأ أيضاً
كان من المناسب أن أستعيد القصة التي رواها الصحافي الأمريكي روبرت وورث، وأنا استمع إلى صديقي المستثمر العربي وهو يحثني من فندقه بالمنطقة الخضراء في بغداد على العودة إلى العراق بعد ثلاثة عقود من مغادرته.
لقد كتب وورث أحد أهم الاستطلاعات المثيرة عن الفساد، في صحيفة نيويورك تايمز، من داخل نظام حكم اللصوص البيروقراطي في العراق، حيث وردت فيه تفاصيل عن قصة المستثمر اللبناني حسين اللقيس الذي استولت ميليشيا كتائب حزب الله، على مشروعه الاستثماري الذي أقامه في مطار بغداد الدولي بالاستناد إلى عقد حكومي وأجبرته على مغادرة العراق تحت طائلة التهديد، وقال له أحد عناصر الميليشيا “نحن القانون” عندما حاول المستثمر التمسك بحقه واللجوء إلى القانون الذي ينظم الاستثمار.
ما يدفع صديقي المستثمر العربي إلى المجازفة بأمواله في العراق، بعد أن نجحت استثماراته في الإمارات والأردن ومصر، يمكن أن نعزوه إلى سبب عاطفي متعلق بالحنين إلى بغداد حيث أنهى دراسته الجامعية فيها في ثمانينيات القرن الماضي. لكن “الحنين” على أهميته الإنسانية لا يعول عليه كثيرا عندما يتعلق الأمر بدراسة الجدوى الاقتصادية.
كذلك سألته ما الذي يدفعك إلى الثقة بأن أموالك في موضع آمن في العراق؟ قال ” الفساد بدأ يضعف، والفاسدون بدأوا يخافون من العقاب”!
لن يكون الأمر صعبًا أن أذكّره هنا بنور زهير الذي استولى على أموال دائرة الضرائب المقدرة بـ 2.5 مليار دولار في “سرقة القرن” وهو مبلغ يعادل ميزانية الرعاية الصحية في البلاد بالكامل.
في النهاية أخلي سبيل نور زهير من قبل الحكومة العراقية من دون أن تستعيد الأموال كاملة منه، حيث يمر الناس اليوم من أمام قصره في بغداد المنار بالأضواء اللامعة.
ولا يمكن أن نتوقع أن الطبقة الأوليغارشية المسيطرة على الحكم أن تخاف من حكومة تابعة لها بالأساس، كما يقول المستثمر العربي، لأنها أصبحت تشكل طبقة جديدة أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات وعلى مر السنين أتقنت هذه العصابات الحيل والاختلاس على جميع المستويات. فالجانب الاقتصادي والمالي أصبح جزءًا أساسيًا في نشاط الميليشيات التي تنضوي حاليا في حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بعد أن وضعت سلاحها في المشجب مع انتهاء القتال ضد تنظيم داعش.
من المفيد أن نذكر هنا التحقيق الأخير لصحيفة الغارديان الذي كشف أن الموظفين العاملين لدى الأمم المتحدة في العراق يطالبون برشى مقابل مساعدة رجال الأعمال في الفوز بعقود في مشاريع البناء. وهم في ذلك يغذون ثقافة الفساد كشريان للحياة السياسة في العراق.
كذلك التقرير الأخير للبنك الدولي الذي التقى بمسؤولين من الحكومة العراقية في العاصمة الأردنية عمان، وأكد على أن مناخ الاستثمار في العراق لا يزال ضعيفًا، مع “غياب تشريعات مواتية للشركات، ومناخ أمني غير مستقرّ، وأوجه قصور إدارية وفساد ممنهج”. لذلك أصبح ما سرق من ثروة العراق منذ عام 2003 يصعب عده. فالحياة السياسية في العراق أشبه بحرب عصابات وإنّ سطحها المضطرب يخفي عملا هادئًا للنهب، ففي كل وزارة يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب لفصيل أو لآخر باعتباره الوجه الجديد للحكم.
ينقل نيكولاس بيلهام مراسل مجلة “إيكونوميست” البريطانية في الشرق الأوسط عن سهى النجار، التي ترأست هيئة الاستثمار الحكومية، قولها إن التهديدات أجبرتها على الفرار من البلاد.
وقالت “حياتك ستتعرض للتهديد على أي حال، لذلك عليك أن تكون فاسدًا وتكسب المال، لهذا السبب، الجميع فاسدون”.
وأكدت على أن نوّابًا من المولين لإيران كانوا “يأتون إلى مكتبي ويهددونني علنًا أمام موظفيّ بالسجن والقتل”.
لذلك تتحدث الولايات المتحدة اليوم عن وضع شريحة الكترونية في الأوراق النقدية لتعقب تحرك الدولار، وتلك الفكرة التي يسميها البعض بـ “الفذة” للعقول الاقتصادية، راودت خبراء جرائم غسيل الأموال مع تهريب الدولار من العراق إلى إيران. بيد أنها جزء مكمل من ثقافة العبث، وكأن الولايات المتحدة لم تكن مصدرا لتلك الفوضى المالية التي أدارها لصوص الدولة في العراق. كل هذا مر ولا أحد من الصحافيين سأل السوداني عنه أثناء زيارته الطويلة المحملة بالرسائل الإعلامية إلى الولايات المتحدة! الأهم من ذلك هل السوداني نفسه نتاج “ثقافة الفساد” السائدة أم يعيش سياسيًا على هامشها؟
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.