إقرأ أيضاً
بودي أن أجد من العراقيين من يساعدني للعثور على معادل للحرج اللغوي الذي واجهته واحدة من كبار الكاتبات في صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية، أمام ابنها عندما استخدمت كلمة عامية في البحث على الإنترنت.
فتحولت وفق وصفها “من أم عظيمة إلى أم محرجة” بعد توبيخ ابنها على استخدام هذه المفردة، قائلا “لا تقولي ذلك. إنك تبدين غريبة” كان الولد، في هذا الكلام، يرتدي ربطة عنقه مثل كبار اللغويين والأدباء احترامًا لقواعد اللغة! وأمام مَن؟ أمام أمه التي تعد من كبار كتّاب الصحيفة الأهم في العالم، فإيما جاكوبس تكتب عمودها الأسبوعي مع التركيز بشكل خاص على العمل والتغيرات التي تحصل فيه والحياة المكتبية.
حسنًا، من يشعر بالحرج من الانهيار اللغوي القائم في العراق، بعد أن تحول خطاب السياسيين ورجال المجالس الطائفية ودكاكين القنوات الفضائية ومنصات التواصل التي باتت مواقع للجحيم اللغوي، إلى مجلس كبير لحثالة لهجة فاقدة لجذورها، بذيئة، رثة، مكسورة… وفي كل ذلك يمكن أن نعزوه دون تردد إلى الانهيار السياسي والاجتماعي القائم في البلاد منذ أكثر من عشرين عامًا، فقد أهدر دم اللغة مثلما تم قتل العراقي على الهوية.
استخدمت إيما جاكوبس مفردة RIZZ”” بشكل عرضي في محادثة في المنزل، والتي “تعني كاريزما” ويعرفها قاموس أكسفورد على أنها “الأناقة، أو السحر، أو الجاذبية”.
كانت تجربة لمعرفة مدى دراية ابنها باللغة العامية على الإنترنت. فحصل ما حصل لها من توبيخ الولد لأمه!
من حيث الكبرياء، كان فشلا بالنسبة للأم الكاتبة والصحافية. وهي في ذلك تتطرق إلى قضية أوسع تتعلق بالانقسامات بين الأجيال.
لكنني عندما أقتبس هذه القصة من الكاتبة في صحيفة فايننشيال تايمز، إيما جاكوبس وابنها، وأبحث عن معادلها في العراق، فسأجد ما يبعث على الاذلال اللغوي المستمر في خطابنا السياسي والاجتماعي القائم. فاللغة العربية ضحية الانهيار مثل كل شيء سقط في هاوية الفشل منذ عام 2003.
وسنجد ذلك في رسائل نصية متبادلة بين طالبة عراقية في السنة الجامعية الرابعة وأستاذها، إذ يمكن أن نتوقع أي شيء، إلا أن تكون هناك جملة عربية سليمة، ومن الأستاذ نفسه الذي جارى تلميذته في الكتابة بلهجة دارجة ركيكة!
فإلى أي هاوية سنصل عندما يكون ذلك خطاب الأستاذ الجامعي في العراق؟
وكما هي الحال مع كثير من هذه الأمور، فإن الأمر لا يتعلق بالضرورة باستسلام جيل لآخر، بقدر ما يعني هدر دم اللغة العربية القائم في الخطاب السياسي والإعلامي العراقي، وهو سبب يجعل من أكثر من جيل متخرج من الجامعات العراقية، يعاني من العجز في التعبير عن نفسه بلغة سليمة! فهذا الجيل يتأثر بشدة بالتريندات والكلام الطائفي الفظ وصراخ الفضائيات واسعة الانتشار، فهو لا يقتصر على اللفظ فقط.
وهكذا تحول الخطاب السياسي والاجتماعي في العراق، إلى لغة تحجب المعنى وتفرط عمدًا بسموها، وتلك مشكلة خطيرة وكبيرة، إذا لم يكن الناس في العراق على دراية بالذي يحصل لطبيعة خطابهم.
كتبتُ قبل سنتين عن إهدار دم اللغة في مشروع تكنولوجي، حيث تضع شركة أنظمة وبرمجيات كندية شهيرة لمساتها الأخيرة على قاعدة بيانات ونظام رقمي مكتوب بمساعدة الذكاء الاصطناعي، يتعامل مع اللهجة العراقية حصرًا وإقصاء كل ما له علاقة باللغة العربية الفصحى.
وجد المقال استجابة رائعة حينها، لكن ما تأثيره، على الطالبة الجامعية في رسائلها مع الأستاذ، كمثال على الانهيار اللغوي المستمر في العراق؟
لا تقل قسوة الإجابة على هذا السؤال، عن القسوة التي تعاني منها اللغة العربية في الجامعات والمؤسسات ووسائل الإعلام العراقية، دع عنك الخطاب الاجتماعي السائد!
توظف هذه الشركة حاليًا المئات من العاملين العراقيين لتحميل قاعدة بيانات ضخمة من الجمل والكلمات الدارجة وفق تسجيلات صوتية استلت من التعامل اليومي بين أفراد عراقيين في محادثات عبثية وتبادل كلام فارغ لا ينم عن أي فائدة، بما فيها الكلام الضحل والبذاءة والشتائم والتعبيرات التي تنم عن جهل وأميّة معرفية وتخلف لغوي وثقافي.
ليس معروفًا بعد، الهدف من هذا النظام التكنولوجي والجهة التجارية التي ستقوم بتسويقه، وما هي قيمة الخدمة التي يوفرها للمدونة الثقافية والاجتماعية العراقية. وبغض النظر عن استحالة التوصل إلى صيغة مقبولة في كتابة الكلمات الدارجة لأنها تلفظ بطرق مختلفة بين فئات المجتمع العراقي من الشمال إلى الجنوب، فإن المشروع بالأساس لا يتعامل مع اللغة ككائن حي ينمو ويتطور، بقدر تعامله مع لهجة كائن لغوي عليل وواهن.
وإذا أهملنا عن قصد نموذج العمل التجاري المبني على الربح وحده، فإن المشروع الذي على وشك الاكتمال، يهدف بلا أدنى شك إلى عزل الثقافة العراقية عن تاريخها ومحيطها العربي وتقديم بديل شاذ لقاموس عراقي جديد، عندما تعمل الخوارزميات على اعتبار الضحالة والركاكة في التعبير نموذجًا معرفيًا وتقديمها في تطبيقات وأنظمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرقمية.
هذا النظام التكنولوجي الذي يدار بميزانية مالية مليونية، من غير المعروف من يقف خلف تسويقه بعد اكتماله، لكن مجرد معرفة فرق العمل التي تدفع منذ أشهر بتوثيق كمْ من المفردات العراقية الدارجة بما فيها الكلمات البذيئة التي لا جذر ولا معنى لغويًا لها، في خوارزميات الذكاء الصناعي. نكتشف الجهد المبذول في إنتاجه وبفريق برمجي دولي وظف حتى الآن المئات من العراقيين أغلبهم من الشباب في عملية تحميل الملايين من الكلمات. وبعدها هل يوجد حرج لغوي في العراق، بمجرد القيام بتحليل عشر دقائق من خطاب قناة فضائية ناطقة باسم واحدة من الميليشيات الطائفية؟
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.