إقرأ أيضاً
حسب شهود عيان التقيتهم كثيرا منذ سنوات، وفي احاديث سردية بعيدة عن أجواء المقابلات الصحفية، كانوا يؤكدون لي يقينهم أن الملك الراحل الحسين قد حزم أمره وبجدية أن يقطع العلاقات مع إسرائيل عام ١٩٩٧، وأن الملك الغاضب والممتلئ بالمرارة في أواخر سبتمبر- أيلول من ذلك العام قد أمر بإخلاء غرفة يرتاح فيها ويدير منها الأزمة، مجاورة لغرفة الإنعاش الطبي التي يشغلها القيادي الحماسي خالد مشعل بين الحياة والموت وقد تعرض لرشة قاتلة من مادة سامة خلف رقبته في محاولة اغتيال فاشلة قامت بها خلية اغتيال متخصصة في الموساد الإسرائيلي وبأمر مباشر من رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها بنيامين نتنياهو.
بعض من كانوا في المدينة الطبية في تلك الساعات الحرجة ومشعل في غرفة الإنعاش يواجه الموت البطيء والغامض بتركيبته الكيميائية، أكدوا أن الملك الراحل وضع كل مستقبل العلاقات مع إسرائيل في كفة مقابل حياة من وصفه في كلمة متلفزة ومليئة بالغضب بـ “أحد أبنائنا“، فمشعل على كل تراتبياته التنظيمية بالنسبة للملك الراحل هو مواطن أردني تعرض لمحاولة تصفية قذرة في أحد شوارع العاصمة الأردنية.
“الترياق”، كانت المفردة الأكثر حضورا في الساعات التالية، وهو المصل المضاد للسم والذي ينقذ حياة السلوادي الشاب أيامها، والذي تحول إلى الوجه السياسي لأكبر فصيل مسلح إسلامي في غزة.
السرديات ذاتها في تلك الأحاديث حملت الكثير مما لم يعمل على توثيقه أحد من وجهة نظر أردنية “وهذا قصور إعلامي فادح في التوثيق ويتكرر حتى اليوم”، ومن ذلك أن أحد كبار الصحفيين الأردنيين وقتها وممن أثق بروايته الشخصية قد حدثني أنه كان في طريقه لمنزله في منطقة الرابية حيث السفارة الإسرائيلية المحاصرة من قبل قوات خاصة أردنية وقد اختبأ فيها عملاء الموساد، قد اقترب من المدرعة الأكثر تقدما أمام السفارة ليجد على متنها نجل الملك الأكبر الأمير “آنذاك” عبدالله، خلف سلاح المدرعة مصوبا نحو مبنى السفارة منتظرا أوامر والده الملك. كانت تلك إشارة واضحة لحجم الغضب الأردني الرسمي.
تعددت الروايات بعد ذلك حول من أتى بالترياق، لكن من الواضح أن النتائج كانت خسارة مريرة لنتنياهو الذي اضطر أمام الضغط الأردني غير المسبوق أن يكلف رئيس جهاز الموساد لا بتسليم الترياق وحسب، بل بالإفراج عن الأب الروحي لحركة حماس ومؤسسها الشيخ احمد ياسين والإفراج عن ٧٠ أسيرا فلسطينيا من المعتقلات الإسرائيلية، مقابل إنقاذ العملاء الإسرائيليين المحاصرين الأربعة من محاكمة كان الملك الراحل مصرا على أن تنتهي بإعدامهم لو مات خالد مشعل.
كانت عملية تبادل أسرى حقيقية، ورسائل سياسية شديدة اللهجة تكشف حجم التوتر المزمن دوما بين نتنياهو ويمينه المتطرف “المتجدد” والدولة الأردنية.
كان الملك الراحل قبل عملية اغتيال خالد مشعل قد كتب رسالة إلى نتنياهو أيضا، تم نشرها “عمدا”، غير مسبوقة ولا تقليدية لملك معروف بهدوئه الشديد وتهذيبه الدبلوماسي الشديد، رسالة مليئة بالتقريع والاتهامات لنتنياهو بالكذب والخداع.
ورث الملك عبدالله الثاني عن أبيه عرشا مستقرا وثقة مهتزة دوما بنتنياهو.
—
لم يترك نتنياهو منذ ذلك الحادث فرصة إلا وأفسد فيها كل شيء مع الأردن. كان دوما خادعا وماكرا كما وصفه الملك الراحل، عدم الثقة فيه بالمطلق واضح حتى في كتاب الملك عبدالله الثاني الصادر عام ٢٠٠٥ حين يفرد فقرات خاصة عن نتنياهو تعكس رؤية الملك الأردني وقد اقتبس في كتابه أيضا عبارات قالها خصم نتنياهو التاريخي إيهود باراك، تصف الرجل بالكارثة.
الرسائل “السياسية” المتبادلة بين الأردن وإسرائيل في كل حكومات نتنياهو “تحديدا” كانت محملة بالتوتر الشديد.
وفي مارس من عام ٢٠٢١، كان المشهد قد وصل إلى ذروته باستهداف ولي العهد الأردني نجل الملك وحفيد الملك الراحل الذي يحمل اسمه، الأمير حسين. حينها كان الأمير الهاشمي الشاب على جسر الملك حسين يجهز نفسه لاجتياز النهر وزيارة القدس والمسجد الأقصى بزيارة تم التنسيق المسبق لها ونجاحها يعني الكثير للأردن الرسمي والهاشميين الذين يتمسكون بالوصاية على المقدسات في المدينة القديمة.
نتنياهو بذات المكر والخداع، أجهض الزيارة في لحظاتها الأخيرة، فيرد الأردن بإجهاض زيارة نتنياهو لأبوظبي عبر منع طائرته من التحليق فوق الأجواء الأردنية.
في العدوان الأخير على غزة، وهو عدوان همجي يحمل توقيع نتنياهو والمزاج الإسرائيلي العام المنزاح لليمين، حسم الأردن الرسمي موقفه بالوقوف ضد إسرائيل التي يمثلها نتنياهو ويمينه الحاكم، لتأخذ المعركة أبعادا أكثر حدية تجلت في التصريحات المتتابعة التي وصلت إلى استخدام مفردة الحرب أكثر من مرة في الخطاب الرسمي الأردني، وعلى أعلى المستويات.
كان الملك عبدالله الثاني مع اول جولة أوروبية مكوكية له بعد تصاعد العدوان يقف إلى جانب المستشار الألماني في برلين ليرد بقوة على حديث مضيفه الألماني ويصف أي سياسة تهجير او ترحيل بجريمة حرب.
في القاهرة خاطب الملك العالم باللغة الإنجليزية ليتحدث عن جرائم حرب، ومساءلة قانونية لمرتكبيها، وخطوط حمراء تجاوزها يعني إعلان حرب.
الملكة رانيا، زوجة الملك ووالدة مشروع الملك القادم كانت منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة قد وظفت منابرها “المؤثرة فعلا في الرأي العام الغربي” ضد العدوان وقد وشحتها بالسواد المعبر عن الحداد على ضحايا تفتك بهم آلة القتل الإسرائيلية، ثم تخرج وبلهجة شديدة واتهامية وواثقة تدين فيها العدوان الإسرائيلي على قناة سي أن أن. لتتعرض إلى هجمة لم تنته حتى اليوم من الإعلام الإسرائيلي ورموز اليمين المتطرف فيه.
الأمير الحسين، وارث اسم جده الراحل، وولي العهد أيضا كانت له طريقته في الرد والمبادرة.
—
في العدوان الهمجي “المستمر” على قطاع غزة والذي يحمل نوايا يمينية “سلطوية” في إسرائيل بالترحيل والتهجير حد الإبادة، كانت المستشفيات هدفا وعنوانا للحرب الإعلامية والسياسية، واستهداف إسرائيل للمستشفيات كان حاسما خصوصا في تغيير الرأي العام الغربي وقد قوضت كل الرواية الإسرائيلية للحرب.
حرب المساعدات الطبية لسكان القطاع، كان الأولوية المتوازية مع المطلب السياسي بوقف فوري لإطلاق النار.
أول اختراق للقطاع المحاصر بالقصف المستمر من قبل إسرائيل كان بعملية إنزال جوي لمساعدات طبية وتموينية على المستشفى الميداني الموجود في غزة والمحاصر بشراسة من قبل إسرائيل.
التشكيك بالرواية الأردنية حول عملية الإنزال لا ينفي حدوث الإنزال فعلا، واتهام الأردن بالتنسيق مع إسرائيل عبث في المنطق الذي يقضي بضرورة التنسيق مع إسرائيل بالضغط عن طريق واشنطن، وهو توظيف دبلوماسي للعلاقات في سبيل إنجاح الاختراق، والذي تطلب أيضا تنسيقا مع حماس نفسها(عن طريق طرف ثالث) حتى تنجح عملية الإنزال بدون أي أضرار، وهو ما أقره على مسامعي أحد أعضاء المكتب السياسي لحماس في العاصمة الأردنية قبل أيام في جلسة مغلقة، وهو ما أثار تساؤلي عن إحجام حماس عن التحدث علنا عن هذا التنسيق غير المباشر، وتعمدها الحذر في إسناد الموقف السياسي الأردني في حرب إعلامية صار الأردن بؤرة الاستهداف الإسرائيلي اليميني فيها.
الاختراق الأردني للحصار “الانتقامي الثأري الدموي” الذي تمارسه إسرائيل كان بالضرورة سيجد رد الفعل الانتقامي عبر قصف ناري لمحيط المستشفى الميداني لتعطيله، مما أدى إلى إصابات طواقمه الأردنية، وهو ما اعتبرته عمان استهدافا وتصعيدا سياسيا “على الأرض” لجهودها السياسية المكثفة.
فكان الرد عبر الأمير الشاب نفسه، ولي العهد الذي رافق طاقم المستشفى الميداني ليحط مع الطائرة العسكرية في العريش المصرية، على حدود غزة ويشرف على دخول الطاقم والمساعدات، كانت الرسالة واضحة باستمرار إحداث الاختراقات ومن أعلى مستوى، مستوى ولي عهد لن ينسى تجربته تلك طوال حياته.
وعودا على بدء..
كانت عملية اغتيال خالد مشعل الفاشلة في تسعينيات القرن الماضي سببا في وضع كل اتفاقية السلام على طاولة المراجعة، وهي عملية لها حساباتها المعقدة في عقل الدولة الأردنية من جهة “الدعم والإسناد” للضفة الغربية المحاصرة إلا من منفذها الأردني.
واليوم، يعيد التاريخ ترتيب الحاضر بصياغات مختلفة مع ذات مفردات الأمس: نتنياهو وحماس، وغزة عنوان رئيس في أبشع عدوان تقوم به إسرائيل، والاتفاقيات رهن المراجعة الصعبة والحذرة.
والجديد فقط أن حكومة نتنياهو المتطرفة هي التي تريد الدفع بالاتفاقية إلى حافة السقوط، لتنفيذ مخططاتها المجنونة والتي لن تنتهي إلا بما حذر منه الملك الأردني منذ سنوات طويلة، وعبر عنه في قمة الرياض بعقلية القلعة عند الإسرائيليين.
ذات الفكرة التي طرحها عام ٢٠٠٥ في كتابه موجها في فقرات منه تحذيره للإسرائيليين من خطورة فكرة جدران القلعة التي يحتمون خلفها بروح عدائية.
وعلى ضفاف السياق..
كان الأمير الشاب ولي العهد الأردني، على حدود القلعة “الإسرائيلية” مرة من شرقها ومرة من غربها.. ومثل والده حين كان اميرا، ينتظر الأمر من الملك.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.