إقرأ أيضاً
في صباح اليوم الثالث من شهر بخون، الشهر الأول في موسم الحصاد في دير المدينة، أحد حواضر الفراعنة في 1170 قبل الميلاد؛ استيقظ خايمواسيت يجر نفسه جراً من الفراش القاسي مع أنفاس الصبح الأولى، حثته امرأته ميريت على النهوض، عله يكون اليوم الذي يستلم فيه حصته من الحبوب. دفعت إليه آخر رغيف خبز من قمح العِمّر وتركت الخابية فارغة. على أمل. خايمواسيت الذي يعمل في بناء وتزيين مقابر وادي الملوك، لم يستلم أي حصص نظير عمله المضني منذ ما يزيد على موسم فات، لكن الحال اختلف الآن، فهذا موسم شيمو، موسم الحصاد، والحبوب أصبحت أكثر وفرة، مقارنة بالموسم الماضي، موسم الإنبات والنماء المعروف بموسم بيريت. لف إزاره حول خصره قضم لقمة واحدة من الرغيف على عجل، ليترك ما تبقى لميريت الحبلى في أشهرها الأخيرة، وأخذ عن حافة الشباك حبة تين مجفف من الموسم الفائت، كان ينوي أن يحتفظ بها لحين اشتداد المخاض على ميريت، علها تيسر ولادة الصغير. يأمل خايمواسيت أن يكون المولود ولداً؛ فليست سوى بضع سنوات حتى يدرب الولد على مهنة تزيين القبور، ويلتحق به في العمل، ويضاعفا الأجر الذي يكسبانه، وربما أنعم عليه الإله أمون بمزيد من الأولاد، فأصبح الدخل أكثر، ويا حبذا لو كانوا قليلي الأكل مثله، فالنهمون لا يوفرون شيئاً من الحبوب، ويموتون من الجوع في مواسم البرد. لكن كل هذا لا يعني شيئاً إذا استمر نبأمون، مشرف العمال بالامتناع عن دفع الحصص له ولزملائه العاملين.
وصل خايمواسيت إلى موقع قبر الملكة تي زوجة رمسيس الثالث، الذي يعمل ورفاقه على تزيينه تحضيراً لرحلة الملكة الأخيرة بعد عمر طويل تقضيه في تناول الحبوب التي يحرمون منها، واستغرب أن الموقع خالٍ من العمال، لا يعقل أن يكون أول الواصلين فنبأمون يكون موجوداً قبل شروق الشمس، فأين هو وأين الآخرين؟ وما أن هم بتناول معداته، حتى جاء إليه رفيقه إيمحوتيب راكضاً بالكاد يلتقط أنفاسه. أين أنت؟؟ الجميع في طريقهم إلى إلى المعبد الرئيسي! ألقِ أدواتك هذه فلا أحد يعمل اليوم، هيا أسرع لنلحق بالركب! وخلال الجري، وبين الأنفاس المتسارعة والضجيج في السوق الذي يمران من خلاله، فهم خايمواسيت أن جميع العمال يتوجهون إلى المبنى الإداري الرئيسي، الذي يقع داخل المعبد، ليطالبوا الفرعون نفسه، رأس الأسرة الفرعونية العشرين بحصصهم من الحبوب. ضحك خايمواسيت من سذاجة رفيقه، فكيف ستتخاطب الفروع الأعظم مع الناس العاديين أمثالهم؟ وهذا ما حدث، فقط خرج على العمال الممتنعين عن العمل بعض الكتبة والكهنة ممن يمثلون رمسيس الثالث، وتفاوضوا مع العمال وأعطوهم نصف أجورهم، على أن يستكملوا دفع الأجور كلها قبل دخول شهر بايني، الشهر الثاني من موسم الحصاد. لم يعرف خايمواسيت أنه كان يشارك في الإضراب الأول الذي وثقه التاريخ الإنساني، وأنه لن يكون الإضراب الأخير.
من الإضراب الفرعوني، إلى إضرابات جمعيات الحرفيين في العصور الوسطى، مروراً بتمرد اللوديت في إنجلترا الصناعية الفتية، وإضراب هايماركت في شيكاغو وإضراب الخبز والورود وصولاً إلى إضرابات العمال في القرن الحالي، أثرت الحركة العمالية الحركة الحقوقية في حياة العمال وحسنت ظروف العمال وعززت الحمايات الاجتماعية، ورفعت مستوى رفاه الشعوب. حركات بدونها ما كان لكبرى الدول الصناعية المتقدمة ان تسهم في بناء اقتصادات قوية منيعة لدولها. ولعل العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جاء تتويجاً لهذا الحراك العظيم. في جوهرها تستند فلسفة الاضراب إلى مبدأ القوة الجماعية والعمل الموحد كوسيلة للضغط للوصول لحقوق مكتسبة تم التقصير في تأمينها، أو الضغط على مجموعات أصحاب العمل للاستماع لمطالب جديدة والتفاوض عليها. الدول التي لا تحترم حقوق العمال ولا تتيح المجال للتفاوض الجماعي، وتجرم كل تحرك عمالي حر، تخلق بالنتيجة بيئة طاردة للعمالة الماهرة، وتجد فيها العمال يسعون –على عكس صديقنا خامواسيت- إلى دفع أبنائهم إلى التعلم والبحث عن فرص عمل بياقاتٍ بيضاء، تحميهم من قسوة العمل اليدوي الصناعي، وتؤمن لهم وظيفة تحت مكيف الهواء وبتأمين صحي يشمل الأسنان والنظارات! ولعل هذا يبرر ارتفاع نسب الخريجين بشهادات عليا في دول العالم الثالث.
ولنتفق إذاً أن الإضراب هو وسيلة لخلق مساحة للتفاوض، يكون قادتها من كلا الطرفين معلوماً، وتكون أهدافها محددة مسبقاً، بما لا يدع مجالاً للتراجع عن المكتسبات التي أنتجها التفاوض. هذا العلم النافي للجهالة ضروري لنجاح أي تحرك مطلبي، أن تعرف من يقوده، متى يبدأ ومتى ينتهي. ولا شك أن قواعد اللعبة هذه، هي ما أتاح للتحركات العمالية في الدول المتطورة، المصداقية والثقة، من طرف العمال أنفسهم الذين يلتفون حول المطالب، ومن قبل أصحاب العمل، الذين يعرفون أن عمالاً راضين يعني أنتاجاً أكثر، وربحاً أوفر، وللدولة، التي تعرف أن الإضراب وإن عنى توقف عجلة الحياة ليوم أو شهر، سيؤتي بالنتيجة أُكُلَه، عبر صناعات تصديرية ترجح كفة ميزان التجارة لصالحها، وضرائب تستوفيها ليس من دخول العمال فقط، بل بشكل غير مباشر عند خروجهم إلى مطعم او حانة يحتفلون فيها بانتصارهم ويدفعون أموالاً لأصحاب هذه المحال، وما سيشترونه من هدايا في موسم عيد الميلاد لأبنائهم، والرحلات في أرجاء الوطن أيام إجازاتهم، ستخضع كلها آجلاً أم عاجلاً لضريبة مبيعات تسعد الجباة.
أعود إلى أيامنا الحالية، والموضوع الذي لا يغيب عن بال أينا نائماً أو قائماً، الحرب على غزة. طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي بدعوة لإضراب عالمي يهدف لوضع الضغوط على القطاع التجاري، الذي بدوره سيضع الضغوط على الدول، التي إما ستضغط على اسرائيل لقبول الهدنة، أو ستغير موقفها الخارجي تجاه الأزمة. مثل غيري تحمست لهذه الدعوة، وشجعتُ من هم في دائرة معارفي في الداخل والخارج للانضمام للحركة العالمية. لم يجانب المحللون الصواب عندما قالوا أن هذا الإضراب، على الأقل في بلدي وبعض البلدان المجاورة، من أنجح الإضرابات التي شهدها التاريخ الحديث. وقبل أن نستمتع بانتصارنا الصغير، جاءت دعوتان جديدتان لإضرابين آخرين، قبل أقل من أسبوع من الإضراب الأول. هنا بدأ يساورني الشك، بلدي صغير، والعاملون بالمياومة فيه كثر، توقف عجلة الاقتصاد ليوم قد لا يؤثر على أمثالي من الطبقة الوسطى، لكنه سيكون مرهقاً جداً لهم. بلدي صغير وقدرته على تشكيل الضغط الاقتصادي تشبه محاولة نملة دفع فيل! صاحت في وجهي رفيقتي: ألا ترين ماذا يفعلون بأهل غزة! ماذا نملك سوى الإضراب؟ لقد قعدنا في بيوتنا وشللنا متعمدين حركة الاقتصاد نحو سنتين بفعل فايروس متكور غير مرئي! هل أصبح اليوم الواحد ثقيلاً على الاقتصاد لمجرد ارتباطه بدعم المدفونين تحت الأنقاض؟ لم أجد ما أجيبها به. وقبل أن يتفتق عقلي العبقري عن أن ما تقوم به من حشد عبر وسائل التواصل الاجتماعي له أفضل واوسع أثر، عاجلتني قائلة: “بكرة بس تخلص الحرب، راح يسحبوني إلى “بيت خالتي” بسبب ما قلته وشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي”. وجعلت تستعرض أنباء عن طلبة جامعات تم فصلهم بسبب موقفهم من الحرب في غزة، لا في جامعات أوروبا وأمريكا، بل في جامعات بلدنا العربي الذي يقف موقفاً مشرفاً مع القضية الفلسطينية منذ عقود، ومع ضحايا العدوان الأخير على غزة منذ منتصف شهر تشرين الأول.
دافعت بأن موقف أفراد في مواقع اكاديمية أو إدارية لا ينسحب على موقف الدولة ككل، لكنني حقاً لا أستطيع أن أنكر مخاوفها وقلقها، ولا أستطيع أن أصرف فكرة التشابه الواضح بين المظلومية التي تراها هي وغيرها شخصيةً، ومظلوميات العمال المضربين تاريخياً في العالم. ولا أنكر التشابه في فلسفة الموقفين المستندين إلى تشكيل ضغط ممن لا يملك على من يملك، بهدف تحقيق انتصارات تراكمية تؤدي بمجملها إلى تغيير حقيقي. لكن غياب العلم المفترض بمنظم الإضراب، وهدفه، ومدته كلها عوامل تجعلني أشك في؛ لا جدواه وحسب، بل نواياه الخفية. يدافع معارضو الإضراب العالمي في مواجهة المطالبين فيها في الأردن مثلاً؛ بأن موقف القيادة مشرف، وأن الأردن لم يألُ جهداً في تقديم كل ما هو ممكن لدعم صمود الغزيين والضفاويين أيضاً وهو دفع منطقي وواقعي. ويجيبهم أنصار معسكر الإضراب أن هذا التحرك ليس موجهاً ضد دولتنا ومؤسساتها، هو لإيصال صوتنا إلى بقية العالم، والضغط بطريقة احجار الدومينو على الاقتصاد العالمي وهي حجة منطقية أيضاً.
قال وزير أردني جديد لم يجرده المنصب بعد من ملكة الإبداع، أن من الأجدى بالمضربين تخصيص نتاج يوم أو بعضه لنصرة أهل غزة، وتعظيم كمية ونوعية المعونات التي تصل إلى ضحايا العدوان، قالها بينما فاضت روح صبية غزية بسبب الجوع ما عزز قناعتي بنظريته. حتى عادت صويحبتي لتقول: وماذا تنفع المؤن والمعونات وهي عرضة للتلف بانتظار الإذن بالدخول. قناعتي بعدم جدوى الإضراب صارت بحجم قناعتي بجدواه، وأعتقد أن العديد مثلي. وتبقى بيد السلطة القدرة على ترجيح إحدى الكفتين! فإذا وجدنا أن كاتم الصوت اعتزل عمله، سنعود للصراخ ملأ حناجرنا لإسماع العالم. وإذا تيسرت القدرة على إيصال المساعدات سنخصص كل ما نملك لنطعم الجوعى ونعالج الجرحى وننتشل المحاصرين تحت الأنقاض. ولكن ماذا نفعل وأصواتنا تكمم، ومعوناتنا يأكلها العفن على المعبر، وحراكنا مجرّم ولو بعد حين؟ صاحبتي وأنا والآخرون مثلنا يريدون أن يفعلوا شيئاً ما، أي شيء، وكلما ضاقت الخيارات أمامنا توجهنا لما هو متاح ولو كان قليل الفعاليّة، لأن كثير الفعاليّة ليس في المنال، إضراباً كان أو ما دونه. دفوعنا بين يدي من بيده الأمر.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.