إقرأ أيضاً
للكاتب عمران سلمان خبرة عميقة وواسعة بالسياسات الغربية، هذه مسألة تجعل متابعته أمراً مهماً للتعرف على تحركات البنية الفوقية لما يحدث في العالم ويترابط مع المنطقة، ولكنه لا يبرر مطلقاً أن يبدأ مقالته في موقع نقطة بأن يعتبر الاصطفاف الغربي إلى جانب إسرائيل أمراً لافتاً، هل يمكن أن نعتبر حرارة الجو في شهر آب أمراً لافتاً؟
الفقرة الثانية، تحيل إلى ما يعتبره سلمان ميلاً واضحاً في السنوات الأخيرة نحو القضية الفلسطينية في العديد من الأوساط الغربية، أتت عملية حماس لتبدده وتنهيه.
حسناً، الميل القائم مقدمة صحيحة، ولكنها غير مرتبطة بالفقرة السابقة، ولا يمكن أن تشكل مقدمةً أو مدخلاً أو استدراكاً أو انعطافاً، فمن يميلون من أوساط سيبقون كذلك وما يصطفون من عواصم فذلك موقعهم الطبيعي.
المسألة في هذه الحالة تتعلق بتعريف الأوساط التي تضم في سياقاتها أوساطاً أكاديمية وفكرية وإعلامية، في مقابل وصف العواصم الغربية التي اصطفت مع إسرائيل، وهو وصف تقليدي لا يحتمل أبعد من التركيبة السياسية الحاكمة.
عندما نقول روسيا، فربما نعني الشعب الروسي وثقافته ومصالحه وأساطيره، أما مع استعمال كلمة موسكو، فنحن نعني مؤسسات معينة، الكرملين ووزارة الخارجية وقيادة الجيش، وتاريخياً لم تكن واشنطن أو لندن أو باريس تحمل مواقفاً ايجابية تجاه حركة حماس، أو الفلسطينيين بصورة أكثر عمومية.
افترض سلمان تحولاً، بتقييمه الأساسي لوجود ميل لم يتمكن من تحديده أو القبض على تفاصيله أو تعيين مواقعه، وأخذ يضع السبب بعد لعبة تركيب العبارات القصيرة، وما لا يمكن أن ننكره، أن الكاتب يمتلك خبرة صحفية ودربة متميزة في الكتابة، فمعظم فقراته لا تزيد عن ستين كلمة، في المهنة الصحفية هذه مسألة تستحق الإشادة وتجعل مقالاته تصلح كنماذج للكتاب المبتدئين، لأنه لا يتورط في (اللت) و(العجن)، هذا من الناحية الشكلية، أما من ناحية المضمون فيمكن أن تقدم مقالته الأخيرة في موقع نقطة نماذجاً كثيرة للمغالطات المنطقية.
لنأخذ مثلاً: “ولكن ما روّع العالم حقيقة هو اقتحام مساكن المدنيين الإسرائيليين من دون مبرر أو مقدمات وإعمال القتل فيهم واختطاف بعضهم وجرهم إلى غزة.”
تفاصيل الصباح الساخن للسابع من أكتوبر ما زالت غامضة، يتكشف بعضها مع الوقت، والبيت الأبيض تورط في تكرار أكاذيب كما وردته شفهياً، وتبين أنها ملفقة، كما أن فكرة ترويع العالم بالمجمل، أتت مستفزة، فالعالم كما يبدو، هو العالم الغربي، أو الطبقة السياسية من العالم العربي، فالحقيقة، أن العالم لم يروع، يكفي أن تتجول في الصفحات العربية لمئات من أصدقائك في الساعات الأولى التي أتبعت عملية طوفان الأقصى لتكتشف شعورهم بالسعادة والفخر والرضا، فهل يمكن أن نستثنيهم من وصف العالم لمجرد أن يتسق الكاتب منطقياً مع نفسه؟
ما يروع العالم هو زلزال مدمر مثل الذي ضرب تركيا وسوريا، أو تسونامي هائل، أو تسرب نووي، أما مصادرة العالم وتقييفه لاتخاذ موقف متماثل في أي حادث ذو طابع سياسي، فهذه مسألة لا يقع فيها المبتدئون الذين ما زالوا يفضلون بداية كتاباتهم بعبارات على شاكلة “مما لا شك فيه”، وهذه صناعة مدرسي الإنشاء المنفلوطيين.
مساكن المدنيين، وصف أيضاً مفرغ من معناه، فالمدني لا يسكن في مستوطنة تقوم بأدوار وظيفية في منظومة استنزاف موارد محدودة لقطاع صغير مزدحم ومحاصر، ومن يقيمون في المستوطنات يدركون أنهم يتحملون المخاطرة، وكلمة مدني في سياقها الإسرائيلي عادةً ما تتخذ أبعاداً إشكالية، ومع ذلك، فما يتضح أنه لم يحدث أصلاً ما يمكن وصفه بإعمال القتل بالمعنى المطلوب تصديره وتصويره.
مثل آخر: “لو أتيحت للمشاهد العربي أن يطلع على ذلك لربما غير هو نفسه أيضا موقفه من حركة حماس ولسعى إلى التفريق بينها وبين القضية الفلسطينية التي هي قضية عادلة وتستحق التعاطف والوقوف إلى جانبها.”
أتت هذه الفقرة بعد حديث سلمان عن وجود مواد إخبارية ينشرها الغرب مختلفة عن التي تصدر للشرق، ويفترض ضمنياً، أنها تحمل ما يدين حماس، مثل رؤوس الأطفال المقطوعة أو النساء مبقورات البطون، وبافتراض أن القنوات العربية تواطأت وتوافقت على حجب هذه المواد، فهل لا يوجد متابعون عرب مثلاً للقنوات الأجنبية، ولا يوجد تيك توك أو فيس بوك، وهل لا توجد بعد ذلك صفحة للمتحدث الرسمي عن الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي لم تنشر ما يمكن أن يعزز أي إدعاء إسرائيلي عن جرائم لحماس حدثت صبيحة يوم السابع من أكتوبر.
متابعة المغالطات ستستغرق مئات أخرى من الكلمات ليس من المحبذ أن تكون في مقال صحفي، ولكن ما الذي يمكن أن نفعله أمام معضلة (إبريق راسل) حيث يمكن لافتراض غير صحيح وخيالي بالمطلق أن يستهلك وقتاً كبيراً لمن يعمل على دحضه، لأنه يقوم على أفكار مرسلة وافتراضات ذاتية غير مبررة، وعلى سيرة ما هو غير مبرر، فالكاتب يتجاهل التركيبة الشعورية في التبرير أو عدم التبرير لأشخاص ربما فقدوا العشرات من أسرهم من قبل في هجمات إسرائيلية دموية دورية واعتيادية، ويحاول أن يفرض عليهم منطقاً قياسياً يتلاءم مع سكان ضواحي لندن أو فرانكفورت الذين يمكن أن يخوضوا جدلاً سياسياً حول إعادة توزيع خطوط الباصات.
أما السؤال المركزي الذي حمله عنوان مقالة عمران “لماذا يصطف الغرب مع إسرائيل” فهو يفقتد المحددات الموضوعية الأساسية، وهي تعريف الغرب، وأي غرب يقصده عمران، وأعتقد أن مظاهرة لندن اليوم يمكن أن تفكك افتراضه الأساسي شكلاً وموضوعاً.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.