إقرأ أيضاً
في ظل الكارثة الإنسانية التي يشهدها العالم، وحرب الإبادة العلنية التي يتعرض لها شعب أعزل، كل جريمته أنه أراد أن يعيش حريته وكرامته أسوة بباقي الشعوب، أخذ كل شيء في هذا الكون يثور، وبلغ الأمر منتهاه بثورة الشارع الغربي وخروجه آلافا مؤلفة منددين بالوحشية الإسرائيلية، وداعين حكوماتهم للخروج من صمتها المطبق.
هذا التداعي الإنساني صوب قضية فلسطين، والذي قفز على الأيدولوجيات الدينية والعقائد السياسية المتنوعة، بل وتجاوز أمر العرقيات بمنطلقها الجندري والجغرافي، يستدعي منا جميعا أن نفكر في هوية القضية الفلسطينية ومرتكزها النضالي، لندرك بأن جوهرها إنساني وكفى، وهو النابض بالحياة الذي أشعل فتيل التعاطف الإيجابي في النفوس، بعيدا عن أي استقطاب ديني أو سياسي؛ وما دعم الشعوب الغربية لصورة الأب والجد الذي لقب عبر وسائط التواصل المجتمعي بلقب “روح الروح” إلا دليل على ما أشير إليه.
فصورة الجد الملتحي بعمامته الدينية وهو يداعب ويقبل عيون ووجه حفيدته المتوفاة بالرصاص الإسرائيلي، قد استقطبت الناس الذين لم يتوقفوا عند هيئته، بالرغم من مشابهتها لشخصية (ابن لادن) بوجه أو بآخر، لكن ذلك لم يؤثر في درجة تعاطف الغربيين بوجه خاص معه، ليكون أيقونة حزينة راسخة في وجدانهم وذاكرتهم، تُدمي عيونهم كلما رأوها.
إذاً هي المأساة بكينونتها المجردة التي جمعت العالم خلف قضية فلسطين، وليست الشعارات والخطب الدينية والسياسية، كما لم تسهم المبادئ والأفكار المؤدلجة في خلق هذا التوحد الكوني، بل لقد ساهمت في تفتيت القضية وتفريق دمها شذرا مذرا طوال العقود السالفة. فهل يدرك القادة الفلسطينيون ذلك يمينا ويسارا؟
أشير إلى أن حالة النضال الفلسطينية ومقاومة المحتل الصهيوني، قد ارتبطت سابقا بالتيارات القومية (يمينية كانت أم يسارا)، فهي من ضحى أفرادها ذكورا وإناثا في سبيل مقاومة ومواجهة سياسات الاحتلال الصهيوني البغيض، وكانت في حينه تفتُّ في عضد الكيان الغاصب، بل وتؤثر في خلفيات المجتمعات الأوربية الداعمة للكيان الصهيوني، باعتبار أنها جماعات مناهضة لقوى الاحتلال، ليس بسبب خلفيته الدينية، وإنما بسبب ظلمه وتعديه ومخالفته للقوانين الدولية.
ولذلك حرصت القوى الخفية على خلق جماعات بديلة لأولئك القوميين ليتزعموا الصراع، وليخرج عن مضمونه المدني إلى مضمون آخر يمكن أن يُفزع اليهود من جهة، والقوى الغربية الداعمة لهم من جهة أخرى.
وكان من جراء ذلك أن برز في الأفق نمط الاسلام السياسي، والجماعات الدينية المسلحة، وتراجع الخطاب القومي المدني، ليحل محله خطاب راديكالي بنكهة دينية. وباتت قضية فلسطين محصورة في تحرير المسجد الأقصى بمعزل عن كنائس بيت لحم وفلسطين الأبية، وبمعزل عن الإنسان الفلسطيني مسلما كان أو مسيحيا أو حتى من غير ذلك.
هكذا تداعت الأحداث خلال النصف الثاني من القرن العشرين، دون أن ندرك مغزاها، ودون أن نتوقف مليا للتفكير في حركتها، وإنما كنا مندفعين للتقدم بسرعة في مسارات لسنا نحن من اختارها، ولا نملك خارطة لها أيضا، وتلك كانت كارثتنا في القرن العشرين.
في حينه بدأ المجتمع الغربي يلاحظ حالة التمايز بين خطابين: أحدهما إسلامي راديكالي متشدد، وآخر مدني علماني يقبل الآخر، وتمثله دولة إسرائيل؛ وكان أن تمثل الخطاب الديني الإسلامي في الإعلام الغربي بشخصيات متطرفة كأبي حمزة المصري وأبو قتادة الأردني وآخرين، الذين أُفسح لهم المجال في بريطانيا للتعبير عن رأيهم الديني المتشدد، الذي لا يقر بالحقوق المدنية المتساوية بين الناس بناء على المشروعية الإنسانية، وإنما يؤمن بالتمايز بحسب الدين والمعتقد؛ وكان أن تنامى تصعيد هذا الخطاب وصولا إلى تهيئتهم لمشروع “داعش” وتمكينهم الإعلامي له، ومن قبله خطاب القاعدة المتطرف؛ وفي قناعتي فلم يكن ذلك إلا لتهيئة المجتمع الغربي للقبول بفكرة الخوف على دولة إسرائيل المدنية من هؤلاء، لاسيما وأن الكيان الإسرائيلي قد نجح في تقديم خطاب مدني يُعطي الحقوق للأخر بمنأى عن دينه، والذي تمثل في ترشح عدد من عرب فلسطين نوابا في البرلمان الإسرائيلي.
هكذا جرى الأمر بتخطيط محكم بهدف إنهاء القضية الفلسطينية شكلا ومضمونا، حتى جاء طوفان الأقصى وغيّر المعادلة كليا، مع الإشارة إلى أن قوة عملية طوفان الأقصى كامنة في ضعفها الفلسطيني في مقابل جبروت الكيان الإسرائيلي المتوحش.
في هذا السياق أشير بود إلى موقف الكنيسة الشرقية في فلسطين وخارجها والتي عطلت احتفاءها الديني المقدس بمولد المسيح عليه السلام تضامنا مع ما يجري في غزة، وأجدها فرصة لدعوة قادة حماس ونظرائهم من قادة النضال في فلسطين لأن يراجعوا منطلقات سياقهم السياسي، إذ كفى فلسطين وإنسانها تشرذما باسم اليمين واليسار، الإسلاميين والتقدميين، مسيحيين ومسلمين، وهو ما يجعلني أطالب قادة حماس بوصفهم رأس المقاومة اليوم، ولكونهم حركة تنتمي لفصيل الإخوان المسلمين كما هو مشهور، أن يعلنوه ابتداء، وأن يخرجوا من أي تنظيم سياسي دولي، وأن يُحرروا القضية من أغلال يمكن أن تُخندقها في زاوية ضيقة، وفق ما أراد الإسرائيلي وخطط له.
أختم ببعض أبيات لمعالي السفير ووزير الثقافة والإعلام السعودي الأسبق الأديب والمثقف الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة الذي شدَّه الموقف الكنسي في يوم ميلاد المسيح عليه السلام، فقال مؤيدا بقلب حزينٍ مكلومٍ قصيدته التي وسمها بقوله: “يا سيدي يا يسوع” وجاء فيها:
يا سَيِّدي يا يَسوعْ
أطفأتُ كلَّ الشُّموعْ
في ليلةِ الميلادْ
في بيتِ لحمٍ سَوادْ
والنّاصِرَهْ في حِدادْ
***
خانوكَ يا سَيِّدي
بل حاولوا صَلْبَكْ
في كلِّ طفلٍ قُتِلْ
تقصَّدوا قتْلَكْ
يا سيِّدي بَغيُهُمْ
عدَّى جميعَ الحُدودْ
يا سيِّدي هلْ تَعودْ؟
***
يا سَيِّدي غَزَّةٌ
عطشانةٌ وتَجوعْ
غِذاؤها مِنْ أسًى
شرابُها مِن دُموعْ
لكنّها غَزَّةٌ
أَيْقونةٌ في النِّضالْ
مِن صُلبِها مِن ثراها
يُولدُ الأبطالْ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.