إقرأ أيضاً
لم أكن يوماً من مريدي ياسر عرفات. وحتى عندما زرت رام الله لم يكن ضريحه المحج الأول الذي قصدته. لكنني لا أنتقص من أهمية الرصيد السياسي والمعنوي الذي جمعه للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ووضعه حجر الأساس لخلق دولة فلسطينية، بغض النظر عن مآلاتها اليوم. ولست في صدد تقييم تجربة مشروع الدولة الفلسطينية عبر أوسلو وما تلاها، فالقارئ يعرف جيداً أين كانت مواضع الخلل، والأشخاص المسؤولون عنه. ولكنني اتصدى هنا لمقارنة سريعة في سلوك القيادة الفلسطينية الآن وبالأمس، وكيف أفضى إلى عزل القضية الفلسطينية، بل في جعل تداولها السردي السياسي حكراً على فئة معينة من الفلسطينيين، جغرافياً وسياسياً.
في أيام عزه كان ياسر عرفات يدور الكوكب الأزرق باحثاً عن كل الثائرين من أجل الحرية، والمتحررين في الجنوب العالمي المابعد استعماري. ياسر عرفات لم يكن له أصدقاء حقاً لكنه كان صديق الجميع، كان “فكّاك نشب” عندما يحدث خلاف بين بلد إفريقي وآخر، حيث كان وسيطاً مقبولاً من الجميع. لم يكن فقط يعانق ويقدم القبل المجانية ويفتتح سفارات فلسطينية في دولهم، كان يدعم قوى التحرر، ويثبت وجوده في المفاصل الهامة في نضالاتها. فدوره في دعم مانديلا في الساحة الدولية ومناصرة جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري موقف مبدئي معروف لدى الجميع. قال لي صديق من كشمير أنه يذكر في شبابه أن جزءاً من ثمن تذكرة السينما في الهند كان يخصص لدعم منظمة التحرير الفلسطينية. من المسؤول عن تحويل الهند من بلد معارض للصهيونية، وأول الدول التي صوتت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، إلى دولة تهرول للتعاون مع إسرائيل وأكبر المستوردين للمنتجات العسكرية الإسرائيلية، بل وتوقع مذكرات تفاهم لاستنساخ التجربة الإسرائيلية؟! يقول صديقي بألم، أنه عندما يتحدث إلى أبناء جيل اليوم من كشميريين عن ما يحدث في فلسطين، يسألونه: وماذا فعل الفلسطينيون من أجلنا؟ متى وقف الفلسطينيون لدعم مطالبنا نحن الكشميريون، أصحاب أطول احتلال باق في التاريخ الحديث، والظرف الأشبه بظرف الفلسطينيين.
أتصفح بكرات الفيديو القصير على منصات انستاغرام وتيكتوك، وتتكرر لقطات لمحاكاة الدبكة الفلسطينية مع رقصة الحرية التي ابتكرها الأصليون أصحاب الأرض التي باتت تعرف بالولايات المتحدة الأمريكية. وعندما تصدت جنوب أفريقيا للترافع في دعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، رأيت فيديوهات أخرى تمثل محاكاة لرقصات وألبسة فلسطينية وجنوب أفريقية. آلآن فقط نتذكر كفلسطينيين أن ألمنا ومعاناتنا جزء من ألم ومعاناة المقهورين في كل مكان. ألم تكن عذابات هذه الشعوب ماثلة أمامنا منذ بداية صراعنا مع العدو الإسرائيلي المحتل؟ لماذا لم نلتحم معهم؟ لماذا انسلخنا بعد أوسلو عن تضامننا العالمي مع الساعين نحو الحرية، وأصبحنا في شبه الدولة نتصرف كمنتصرين مع أن دولتنا بقيت مستباحة من قبل قطعان المستوطنين وقرارات سلطتنا رهينة لموافقة حكومة الاحتلال. أذكر كطفلة أن والدي كان يحتفظ بقصاصات الجرائد التي تحمل صور الزعيم الفلسطيني بكوفيته الشهيرة عند زيارته لمقهوري العالم، وكان يقول أن هؤلاء هم “سندنا” وهم من “يشبهوننا”. كيف انتقلنا من مرحلة كانت دول نامية مقهورة تجمع التبرعات من مواطنيها لتدفع بها لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى لحظة ترفض فيها ميكرونيزيا “التي لا أعرف أين تقع” أن تدعم بتصويت على قرار أممي لا يسمن ولا يغني من جوع، حماية المدنيين الفلسطينيين من إطلاق نار متعسف. لا أسعى هنا إلى جلد الذات، ولا إلى سكب القير على النار، أو المساهمة في السردية التي تروج لضعف وانكفاء السلطة الفلسطينية، خاصة في الأزمة الوجودية التي تواجه الدولة والناس في فلسطين التاريخية. لكنني لا أستطيع تجاهل حالة العزلة التي كان يعيشها الفلسطينيون قبل السابع من أكتوبر، وأعزوها امتداداً للعزلة التي فرضتها القيادة الفلسطينية على القضية وأصحابها.
ركز محمود عباس جهده السياسي في الداخل الداخل، أو الخارج الغربي، فهو إما منهمك في التحاور مع الإسرائيليين وتقديم فروض الولاء والطاعة لضمان الحماية لمنصبه ومؤسسته، أو هو يتملق الخارج الدولي لجلب المساعدات المالية وأحياناً التأييد الدولي الذي يبقى أسير الفيتو. دعونا لا ننكر الجهد الإيجابي الذي يستحق الإشادة؛ فأبومازن استطاع أن يصل في توافق غير مسبوق، لا في أوسلو ولا في ما تلاها، إلى إقناع حكومة أولمرت بتسليم 90% من القدس، وقد استطاع أن يعبر بالشعب الفلسطيني إلى بر الأمان وسط أعاصير الربيع العربي التي عصفت بالمنطقة وأطاحت بأنظمة متمكنة راسخة. في وقت كانت اقتصادات المنطقة تصفر وتذبل بفعل الخريف العربي، والتلاعب الأمريكي والأزمات الاقتصادية العالمية، كان اقتصاد فلسطين يخضَرّ، وكانت أوضاع الفلسطينيين في شبه الدولة مثار حسد دول إقليمية مكتملة الأركان، يعاني مواطنوها قلة الحال وشح الموارد. وأبومازن، على كل علاته، وقف في وجه ترامب عندما هرول زعماء الإقليمي لتقبيل خاتم زعامته.
كل هذا لا يشفع لعباس انكفاء الحالة الفلسطينية إعلامياً في الجنوب العالمي، لأن كل هذه الجهود المبعثرة لم تراكَم بتتابع مُنتِج في الواقع السياسي ولم تؤثر في إزاحة الأوضاع القانونية المستقرة لكيان الدولة الفلسطينية منزوعة المخالب. أين تذهب موازنة الخارجية الفلسطينية في شبه الدولة؟ وكيف تروج الرواية الفلسطينية في العالم؟ بهاتفها الذكي وحزمة إنترنت معقولة، استطاعت منى الكرد وشقيقها محمد لفت نظر العالم لممارسات دولة الاحتلال في حي الشيخ جراح. في قارة أخرى، بتواصل منذ 12 عاماً استطاعت ست نساء ترويج الرواية الفلسطينية بأسلوب مبسط ومدعوم بالحقائق عبر مشروع Visualizing Palestine باستخدام الإنفوغرافيك بشكل مؤثر وبكلف بسيطة. بينما دولة تتمتع بسخي الدعم الدولي لإنشاء وإدامة مؤسساتها، تفشل في إبقاء ملفها حاضراً في أذهان العموم والخواص. وحتى سردية رئيسها مرة تلو مرة، في الغرفة الخضراء أمام ممثلي أمم العالم، فشلت في استدرار أي عاطفة أمام الانهزامية والضعف الفاضح في خطاب على شاكلة “احمونا”!
أشار تقرير داتاريبورتال لعام 2023 أن هنالك 3,96 مليون مستخدم انترنت في فلسطين منهم ما يقارب 3 مليون مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي. أكثر من 57% من الفلسطينين في الفئة العمرية بين 13-54، وهي الفئة الأكثر نشاطاً وقدرة على جذب المتابعين. أتساءل عن جدوى المؤسسات الفلسطينية والموازنات التي تنفقها، وأنا أتابع شاباً مثل معتز عزايزة ومعي من المتابعين ما يزيد على 18 مليون حساب على انستاغرام، وتحوم كل كلمة يقولها وكل فيديو يصوره في مشاركات من كل أنحاء العالم، بينما وزارة الخارجية الفلسطينية غير موجودة أصلاً على انستاغرام، أحد أهم منصات التواصل الاجتماعية اليوم، وحسابها على فيسبوك “المنصة التي بدأ نجمها بالأفول” لا يتجاوز الـ 120 ألف متابع، أغلبهم والله العليم من موظفي الوزارة والسلطة! لا أتوقع من السلطة الفلسطينية ولا من رئيسها المبجل، بخطابه الهزيل، ولا بجهوده الموسمية غير التراكمية أن يتمكن من تحريك مفاهيم الدول الغربية الراسخة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، ولا تحييد الانحياز الفاضح تجاه دولة الاحتلال، فحتى وإن أصبح الرئيس بوسامة معتز عزايزة، أو جمع عدداً من المتابعين عبر كل حسابات دولته في كل المنصات، يبقى ترويج المحتوى الهزيل أمراً صعباً. في وقت تتوجه أنظار العالم أجمع إلى فلسطين، يشعر الفلسطيني، وربما العالم بأسره أن سيادة الرئيس ومؤسساته، يحجبون الرؤية، ويشوهون المنظر.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.