إقرأ أيضاً
مع المقال المشترك الذي كتبه المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في صحيفة فايننشيال تايمز الأسبوع الماضي، عن الحاجة لأوروبا الموحدة، تمت استعادة فقرات قديمة لم تفقد أهميتها من الشعبوي بوريس جونسون الذي قاد الحافلة البريطانية مثل بائع متجول للترويج إلى بريكست. وتعريض مستقبل المملكة المتحدة إلى الخيانة.
بعد التصويت على بريكست عام 2016، وبينما البريطانيون يتأملون النفق الذي أدخلوا بلدهم فيه، ظهر جونسون وجماعته يتقدمهم نايجل فراج ومايكل غوف يلعبون الكريكيت، وكأن شيئا لم يحدث.
فجونسون والمحيطون به آنذاك من زمرة لاعبي بريكست، جعلوا الأمر وكأن المملكة المتحدة تضيق بالشيء الذي صنعته بيديها “السوق الأوروبية المشتركة”. وكان الخيار وحيدا عندهم هو أن تتبع بريطانيا الولايات المتحدة الأحادية الغارقة في الأنا، التي تعد إحدى أعداء الاتحاد الأوروبي.
انتهت صفقة بريكست بمشروع أطلق مع أنصاف الحقائق وأسوأ من ذلك، وانتهى بنفس الطريقة وأصيب البريطانيون بكآبة مرض خاص بهم اسمه بريكست.
وعندما اقتبس جونسون الذي صار رئيس وزراء بعدها، محاولات هتلر ونابليون للاستحواذ على أوروبا، كان يحاول بأنانيته السياسية المعهودة تهشيم فكرة الاتحاد في نظر الجمهور، والتوصل إلى نتيجة مفادها أن كل شيء يمكن أن ينتهي بشكل كارثي.
وُصف حينها بالسياسي الذي تخلى عن المعايير الأخلاقية، بل إن صحيفة الغارديان اعتبرت كلام جونسون “شائن ومستفز″، ولم تتعاطف معه صحيفة التايمز، مطالبة إياه بـ “إبقاء هتلر خارج كل هذا الأمر”.
بريطانيا جزء من أوروبا وفق قدر الجغرافيا، فاللغة الإنكليزية ليست سببا كافيا كي تجعل المملكة المتحدة والولايات المتحدة توأما هجينا.
اليوم ثمة من يتجرّأ بهذا الكلام “الشائن والمستفز″ ويرفع صوته للتذكير بأن الاتحاد الأوروبي أصلا منقسم على قيمه، أو بتعبير جديون راتشمان الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز، بأن الفكرة القائلة إن قادة الاتحاد الأوروبي متحدّون حول قيم مشتركة هي فكرة يصعب الحفاظ عليها بشكل متزايد، الاتحاد الأوروبي تحالف وليس اتحاد قيم.
يعتقد راتشمان أن الانقسامات الداخلية التي تمزق الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أقل قوة من الضغوط الخارجية التي تدفعها باتجاه بعضها البعض، وهو يعني في ذلك روسيا أولا والصين والولايات المتحدة بدرجة أقل.
الاتحاد الأوروبي يعاني من اهتزازات تصيب فكرة الوحدة بالإحباط على مستوى العالم.
ذلك ما ذكره مقال شولتز وماكرون المشترك، وكأنهما اكتشفا ليلة أمس فقط!! الخطر المحدق بالاتحاد الأوروبي، وهما يحذران من خطر “مميت” يهدد أوروبا، اختصراه بروسيا وحربها على أوكرانيا، بيد أن الخطر أبعد من ذلك بكثير يبدأ من بريطانيا ويعبر إلى سواحل المحيط الأطلسي. وماكرون يدرك بحس سياسي عميق كل ذلك، سبق وأن وصف جونسون الفرنسيين بأنهم “خسيسون” ضمن فيلم وثائقي جديد أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” وتم قطع هذا الجزء لاحقا.
وكتب الزعيمان في صحيفة بريطانية بدلالة جغرافية لا تقبل اللبس “أوروبا التي ننتمي إليها عرضة لخطر مميت، وعلينا أن نرتقي إلى مستوى التحدي”.
وأوضحا “إذا نظرنا إلى التحديات التي واجهتنا على مدى السنوات الخمس الماضية، سواء كان ذلك الوباء أو الحرب العدوانية الروسية المستمرة ضد أوكرانيا أو التحولات الجيوسياسية المتزايدة، يبدو الأمر جليا. أوروبا تشهد نقطة تحول بين نهاية حقبة وبدء عصر جديد”.
فهل أوروبا اليوم تستحق الاحترام السياسي وقادرة أن تضمن أمنها الخاص؟
يمكن أن نجد إجابات حاسمة فيما ينتظرها بعد عودة دونالد ترامب المفترضة للبيت الأبيض، وشعار “أمريكا أولا”، وترنح أوروبا المستمر من الحرب الروسية الأوكرانية في عامها الثالث.
لذلك ليس ماكرون وحده الذي يروج للاكتفاء الأوروبي الذاتي العسكري. فحلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي يتصارعان، في الوقت الذي يصبح فيه الأخير أكثر حزما في مجال الدفاع. والدفع بصناعة الأسلحة الأوروبية بشكل كاف.
وبطبيعة الحال، لن ترحب الولايات المتحدة بسهولة بأن تتولى الدول الأوروبية التابعة لها السيطرة على أزمة أوكرانيا، لكن كسر التبعية لواشنطن سيكون بالضبط الهدف الأساسي لماكرون.
فجرأة روسيا والصين تصاعد الشكوك وتثير قلق الاتحاد وتحطم الحلم الذي وضعه الأجداد بالعلم الأزرق ذي النجوم الصفراء.
هناك تحذيرات مستمرة لم تبدأ من مقال شولتز وماكرون، من عودة أوروبا إلى ثلاثينيات القرن الماضي. وخشية الشعوب من تفكك الاتحاد أمام أعينها.
ذلك ما سبق أن عبر عنه ثلاثون روائيا وشاعرا ومؤرخا وفيلسوفا، في بيان مشترك قبل سنوات محذرين من أن التخلي عن الاتحاد دفعهم إلى العمل من أجل إيقاف المدّ الشعبوي الذي يهدد أوروبا، خشية من فاجعة ما أسموه “انتصار المخربين، وخزي أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بدانتي وإيراسموس وغوته، وازدراء الذكاء والثقافة، وانفجار العداء للغرباء”. وطالبوا بإعادة اكتشاف الطواعية السياسية، أو تقبل أن “الاستياء والكراهية وموكبهما من الشغف المحزن ستحيط بنا وتغرقنا”.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.