إقرأ أيضاً
“ألفة لديها أربع بنات، الصغيرتان، آية وتيسير مازالتا تعيشان معها. أما الكبيرتان، رحمة وغفران، أكلهما الذئب”.
بهذه المقدمة، تفتتح المخرجة التونسية كوثر بن هنية فيلمها، وهي تفصح بصوتها عن ماهية قصتها التي ستتحدث عن “بنات ألفة، آية الرحمن وتيسير الغفران، أربع بنات” المنتج عام 2023. وهي مقدمة تؤسس فيها الملامح الأولى للأسلوبية الاخراجية التي ستنسج بها خيوط فيلمها المتشابك بين الدرامي_التخييلي والوثائقي، ودمجهما بمشهدية مسرحية بدت كحل إخراجي الأكثر طواعية وتناغماً مع روح فيلم صدامي، يقتضي المواجهة المباشرة مع الجمهور_المجتمع.
رسميا وإعلامياً، برزت التونسية ألفة الحمروني في أبريل 2016 بعد انتقادها لوزبر داخلية بلادها السابق وتحميله مسؤولية التحاق ابنتيها المراهقتين رحمة وغفران الشيخاوي بـ (داعش) الإرهابية في مصراتة_ليبيا، وأيضاً تحميل الدولة المسؤولية لسماحها للأئمة بالوعظ في الأماكن العامة والتأثير على البنات، وخوفها على صغيرتيها آية وتيسير من احتمال هروبهما للحاق بأختيهما، دون أن تغفل عن لعن(الثورة) التي حملت لتونس كل هذا الخراب حسب اعتقادها.
أما في التفاصيل، فستتولى كوثر بن هنية هذه المهمة الشاقة، وتبتدئ بتفكيك قصة ألفة قطعة قطعة، جرح إثر جرح، تاركة للمشاهد فسحة إعادة تركيبها بحسب تلقيه وتفاعله مع هذه الجرعة الثقيلة من الآلام والشقاء الإنساني. ولإنجاز مهمتها، ستضع أبطالها الحقيقيين، ألفة وآية وتيسير، مع النجمة هند صبري التي ستتقمص دور الأم ألفة وإحياء بعض المشاهد الدرامية التخييلية المتعلقة بالذكريات “المزعجة”. فيما ستستعيض عن الابنتين الغائبتين رحمة وغفران، بممثلتين موهوبتين ومحترفتين شبيهتين للغاية بابنتيها، تضعهن جميعاً في صندوق الحكاية قبل البدء بفتح أهواله.
في هذا الصندوق، وبمشهدية ستبدو مسرحية في تركيبها الدرامي، لن تكتفي المخرجة بحشر أبطالها فيه، بل ستأتي بمعظم أدوات الحكاية ذات الدلالات الرمزية وترتبها في الخلفية إلى حين استخدامها من قبل الأبطال وفي الوقت الملائم. فتضع رأس امرأة أحمر اللون مغطى بشعر مستعار سنراه على رأس الابنة رحمة في تحولاتها النفسية لاحقاً، وسنرى (مانيكان) نصفي لجسد امرأة بلا رأس أو ساعدين، سيمثل معنى الجسد الأنثوي الذي سيحكى كثيراً عن محظوراته الكثيرة ومآلاته، وأيضاً بوصفه الشاهد الصامت والمشوه المتفرج على الحكاية، حكايته.
مثل أية حكاية، ستحمل في طياتها الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، تتصاعد حبكات قصة ألفة الدرامية التراجيدية نحو ذرواتها، ثم تعود لتهدأ قليلا مع بعض المرح والواقعية. لكنها باختصار تشبه حكاية معاناة معظم النساء في رحلات حيواتهن بين محطات الطفولة والمراهقة والزواج والاغتصاب والإنجاب، والمواجهة الأنثوية الشاقة المستمرة لسلطات المجتمع السياسية والدينية والموروث والتقاليد والعيب والحرية والحرام والحلال. ولأن الاختلاف بين قصة كل امرأة وأخرى يكمن دوماً في التفاصيل، ستتدخل كوثر بن هنية في قصة ألفة بأدواتها السينمائية وتحفر فيها في عمق شديد لتنبش منها المخفي والمسكوت عنه.
في الفيلم هنا، ستتفرع الحكايا وتتكاثر، ومن عمق الأم ألفت، وعاء الحكاية الأكبر، سيضاء على شخصيات البنات الأربعة، حكاياتهن، شقاءهن، تفاعلهن مع حكاية الأم وتفاعل الأم مع حكاياتهن، وصولا إلى نهايات مصائرهن، ومدى كارثية هذه المصائر وتأثيرها على الأخريات، أي على هذه العائلة المنكوبة من “الإناث” التي شكلت موضوع هذا الفيلم، والذي ستختار له بن هنية بيئة لونية تلائم تراجيديته تتمثل بطغيان اللونين الأحمر والأسود.
بدلالاته، سيحضر الأحمر هنا كلون للغضب والاثارة والتبرج وأحمر الشفاه ولون الدم ولون عذرية الفتاة وشرفها، ولون علم تونس وملابس العسكر وفتيات “بن علي”. والأسود لون الحزن والأناقة والاتزان والحجاب والبرقع والأفكار المتطرفة” عبدة الشيطان” وعلم “داعش”. فيما سيحضر اللون الأبيض بشكل خافت ممثلاً للون طهارة العروس والكفن والناحبات و”حور العين”. ألوان ثلاث رئيسة، ستركز المخرجة على إبرازها لتخدم قصتها التي تدور في تونس التي عرفت على الدوام “بتونس الخضراء”، والتي ستبدو بعض ملامحها في مشهد السطح خلال وقوف البنات الأربع بحجاباتهن السوداء، مدينة شاحبة للغاية، يغيب عنها الأخضر ولو بوريقات صغيرة لنبتة عابرة.
“بنات ألفة” أو “أربع بنات”، فيلم مُتعب، مرهق للنفس، ومتقن للغاية نصاً وتمثيلاً وأداءً وإخراجاً وفقاً للمعايير السينمائية العالمية التي أكسبته حتى اليوم عدد ملفت من أرفع الجوائز العالمية، وليس مستغرباً ترشحه وأيضاً احتمال فوزه ضمن قائمة الأفلام الوثائقية لجوائز أوسكار 96 بعد أيام قليلة، بوصفه حمل نضوجاً سينمائياً ملفتاً في مسيرة كوثر بن هنية ومدى تماهيها وقراءتها السياسية والاجتماعية العميقة لواقع بلادها في المرحلة الانتقالية المتعثرة ومدى انعكاس وتحمل هذه التبعات من قبل النساء بشكل خاص. كما يمكن اعتباره نقلة نوعية في تاريخ السينما التونسية “النسوية” بعد فيلم (صمت القصور) قبل ثلاثين عاماً للمخرجة الراحلة مفيدة التلاتلي. فيلم وشحته تدخلات موسيقى تصويرية بديعة من أمين بوحافة، بدت مثل تدخلات جنائزية تارة، ومثل صدى الروح المرهقة التواقة للانعتاق من كل هذا الشقاء الأبدي. ستسهم ليس فقط في بعث التأثير الوجداني المطلوب والتعاطف مع الضحايا، بل أيضاً في طرح أسئلة جوهرية من أبرزها:” هل إن (داعش) الإرهابية التي يعلم القاصي والداني من أنشأها ودعمها ووجدت لها في العديد من المجتمعات بيئات خصبة (لبقائها وتمددها) هي الكارثة القصوى التي حلت اليوم على رؤوس أنظمة ومجتمعات تجرب أن توحي أنها كانت مثالية ومنزهة عن كل عيب؟؟!”.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال تعبر عن كتّاب المقالات، ولا تعبر بالضرورة عن آراء الموقع وإدارته.